فى زحام الصراخ الحالى تختفى تفاصيل كثيرة حول المستقبل، هناك حالة استعجال من تيارات وفئات كثيرة، فالتظاهرات والاحتجاجات الفئوية مستمرة على قدم وساق، وهناك وجهات نظر مختلفة حول شكل المستقبل. خلافات فى الشكل وأحيانا خلافات حول الأشخاص، ولعل الاحتجاجات الفئوية والتظاهرات العمالية الدائرة بعضها يكشف عن ظلم، والبعض الآخر عن خلافات شخصية، فنائب المدير الذى يريد الكرسى يحرك احتجاجات ليطيح بالمدير حتى يجلس مكانه، وكل من يختلف مع شخص يريد إلا يراه أمامه. والخلافات فى كثير من الأحيان أصبحت خلافات حول أشخاص، وليس حول أراء أو سياسات، ولا حول الطريقة والمنهج الذى يتم به الحكم.
ولا يمكن أن تكون الدولة التى يراها صفوت حجازى هى نفسها الدولة التى يراها علاء الأسوانى، ولا المستقبل الذى يتوقعه عبد الحليم قنديل هو الذى يتصوره محمد بديع، وحتى فكرة الدولة المدنية لها تصورات مختلفة لدى كل فصيل، والبعض يؤيدها كنوع من التكتيك، ويخفى داخله تصوراً متسلطاً عن الحكم، وبين التيارات الدينية نفسها هناك اختلافات فى التصور عن المستقبل، ومن بينهم من يسخر من فكرة الدولة المدنية التى تكون لكل المواطنين وتخلو من الأحكام العامة.
وكثير من الذين يرسمون خطط المستقبل وخرائطه، يستدعون تجارب من الماضى دون أن يروا الفروق بين الماضى والحاضر، ووسط كل هذا فإن كثيراً من المواطنين يريدون نتيجة ترضيهم، دون أن يكون لديهم تصور لهذه النتيجة.
ويبدو أن الجميع فوجئ بأن النظام سقط، ولم يكن أى من هؤلاء مستعداً لتقديم بديل، وحتى التيارات التى يقال إنها منظمة أو جاهزة مثل الإخوان، فإنهم لا يقدمون خططاً للمستقبل تستطيع إقناع الباقين. وكانت الإجابة دائما على سؤال "ما هو البرنامج لديكم"، إن لكل مقام مقال، وجاء المقام ولم يظهر مقال أو برنامج.
الكل متفق على أهمية أن يكون هناك نظام جديد فى مصر، والكل يريد نظاماً يحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وطبيعى أن تكون هناك اتلافات فى الطريقة التى يتحقق بها كل ذلك. والحل العادى أن يقوم حوار واسع يستمع فيه الجميع لبعضهم، وأن يتوقف الشعور باليقين الذى كان سبباً فى ضياع الماضى، مع الاعتراف بأن النظام السياسى الذى حكم مصر طوال عقود، أفسد الكثير من العقول، هو نظام متسلط، لكنه أنتج متسلطين صغاراً، بعضهم يرفع راية الديموقراطية بينما يخفى أشد أنواع التسلط.
لقد كان البعض يتصور أن إنجاز التعديلات الدستورية وحده يكفى، لكن المتوقع أن الدستور هو مدونة تضع القواعد العامة للممارسة السياسية، وتحدد الحقوق والواجبات بشكل عام، يحتاج المزيد من الإجراءات ليتحول إلى قوانين وقواعد، وهى تفاصيل تحتاج إلى وقت وجهد، فضلاً عن كونها تحتاج إلى نية حسنة. وكما نعلم فإن النيات تكمن داخل البشر، ولا يمكن اكتشافها أو الحكم عليها. فالديموقراطية ليست بالنيات، لكنها بضمان الإرادة الحرة، وخفض نسبة الانتهازية. والظاهر حتى الآن أن الكل يتحدث فى صوت واحد، ولا أحد يريد الإنصات لغيره، والنتيجة زحام كثير وضجيج كثير، وفعل قليل، والديموقراطية مثل كل الأعمال بالنيات.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة