يقال إنه فى كأس الأمم الإفريقية التى أقيمت فى القاهرة عام 2006 لجأ جمال مبارك نجل الرئيس المخلوع، إلى المسئولين عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة لينتقوا له عددا من طلابها وطالباتها ليحضروا المباريات ويشجعوا المنتخب حاملين الأعلام وراسمين ألوانه الثلاثة على وجوههم، حتى يعكسوا صورة مشرفة لمصر، وعنواناً لشعبها الجميل المرفه "الهاى كلاس".. وهذا بالضبط هو الشعب الذى كان يريده مبارك ونجله وشلة المنتفعين بعصره ويعملون من أجله المشروعات وينشئون الكبارى ويرصفون الطرق وينفقون الغالى والنفيس من أجل حمايته وحراسته وعزله عن الغوغاء فى منتجعات سكنية على أطراف القاهرة، وعلى طول طريق مصر الإسكندرية الصحراوى والساحل الشمالى وجنوب سيناء.
وهذه هى الحدود الجغرافية التى كانت"ولا تزال" حتى بعد ثورة 25 يناير تشكل لهذا الشعب وطناً افتراضياً أطلقوا عليه- مجازاً- لفظ مصر، فى حين أنه يعنى دولة أخرى تماماً لاعلاقة لنا بها ولا علاقة لها بنا.
دولة هؤلاء المواطنين الافتراضيين الذين قد تقع عليهم عيناك وأنت تركب الميكروباص أو تقود سيارتك "الماروتى" وتحدق إليهم بنظرات الدهشة والانبهار دون أن يلتفتوا إليك أو يحسوا حتى بوجودك.
وقد أتاح لى عملى كصحفى يسمح له بالاختلاط بكافة الشعوب المصرية الشقيقة – بما فيها شعب الكنيسة – أن التقى بنماذج من أصحاب الوطن الافتراضى، فوجدتهم يتحدثون العامية المصرية بلكنة أجنبية، ويخلطونها بألفاظ وجمل إنجليزية كاملة من باب التوضيح وسرعة التعبيرعن الأفكار وليس من باب الفذلكة أو الحذلقة، كما يفعل أبناء شعوب مصرية أخرى أقل فى المكانة والمرتبة الاجتماعية.
وفوجئت بأنهم يشكون أيضا من عدة أشياء تتركز غالبا حول ازدحام المرور، وانعدام النظافة فى كثير من الأحياء والشوارع التى يضطرون إلى المرور بها فى طريق ذهابهم من وإلى منتجعاتهم السكنية المعزولة.. ويشكون أيضا من مستوى بعض المذيعين والمذيعات "السوفاج" الذين يقدمون برامج "التوك شو" التى يعتمدون عليها اعتمادا كليا فى معرفة أحوال الوطن الآخر الذى هو بالصدفة أيضا وطن افتراضى.
فالحقيقة أن ما اصطلح على تسميته بدولة مصر، ليس دولة واحدة ولكن مجموعة دويلات يجمع أبناءها حدود جغرافية واحدة، وأحيانا هموم واهتمامات مشتركة وهم يقتربون من بعضهم البعض بشدة فى أوقات الأزمات والأحداث الكبرى، وأكبرها على الإطلاق بالطبع ثورة 25 يناير وما تلاها من تداعيات، لكنهم سرعان ما يعودون مرة أخرى إلى الواقع الأليم الذى فرضه حكم ظالم استمر عقودا طويلة صنف خلالها الناس إلى طبقات اجتماعية وسياسية وظل يزيد الفوارق بينها، وترك لنا ميراثا ثقيلا من الإحساس بالتهميش وضيق الأفق والأنانية المفرطة واستهلاك الطاقة فى صراعات سطحية وتحيزات تافهة لفريق كرة قدم أو مطرب عديم الموهبة، والانشغال بمطالب فئوية محدودة عن صناعة مستقبل لوطن يمكن أن يتسع للجميع بشرط أن يتم استعادته من أيدى من اختطفوه واحتكروا خيراته وتناوبوا على اغتصابه.
وبعد أن تخلصنا من المحتكرين والمغتصبين، يجب أن نتخلص من هذا الميراث السيئ ونعود مرة أخرى وطنا واحدا وحقيقيا وليس مجرد مجموعة من الأوطان الافتراضية يسكنها شعب يحمل أبناؤه نفس الجنسية، ولكنه مختلف كل الاختلاف فى الاهتمامات والتوجهات ودرجة الوعى والقدرة على الفهم والاستيعاب والتمييز بين ما هو أصيل ومخلص وما هو وافد ومزيف ومصطنع.
لا يمكن أن يستعيد سكان مصر الأصليين وطنهم الحقيقى، إلا بعد أن نقلص تلك الفوارق الطبقية الرهيبة ونحقق الشعارات التى قامت من أجلها ثورة 25 يناير وهى العدل والحرية والعدالة الاجتماعية، والحقيقة أنه لا شىء قد تحقق منها حتى الآن!