"إنت معانا ولا مع التانيين؟".. "أنا معاكم".. "طب ايه رأيك بقى إن إحنا التانيين".. خطرت ببالى تلك النكتة وأنا أتابع السؤال "إنت مع وللا ضد؟" مقذوفا فى وجه الجميع من الجميع.. دونما تحديد مع من وضد من.. وبالتالى يمكن أن تكون مع وضد فى الوقت ذاته.. بمعنى أنك قد تكون مع المعتصمين فى ميدان التحرير وضد بقاء الرئيس لنهاية ولايته.. ويمكن فى ذات الوقت أن تكون مع استمرار الرئيس وضد بقاء المعتصمين فى الميدان.. وتلك سفسطة أدمنها من يسمون أنفسم نخبة.. ثم نجحوا فى تصديرها للشارع المصرى كعادتهم غالبا.. أما الشعب الذى قاده شبابه على اختلافهم، فلم يعودوا فى صدارة ذاك المشهد الجدلى القديم الذى تدمنه القوة الناعمة والأحزاب السياسية على حد سواء!!
ما حدث فى مصر يوم 25 يناير، لم يكن فقط ثورة على أوضاع اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية متردية.. ولا كان ثورة ضد قمع حرية الرأى والتعبير والفساد فقط.. بل كان ثورة على نظام دولة هش.. أسهمت هشاشته فى إضعاف قيمة الإنسان المصرى وإحساسه بهذه القيمة.. وما حدث فى 25 يناير وما بعده، غير بالفعل فى داخلنا جميعا أشياء.. كثيرون من الذين اعتصموا فى الميدان قرروا الخروج منه.. لأن شيئا ما تغير داخلهم.. سواء من المنتمين لتيارات سياسية أو لا ينتمون.. ليقدموا شيئا مفيدا.. لأنهم يملكون عينا طازجة فى اتجاه المستقبل.. لا يؤمنون بلغة محلك سر التى أدمنتها النخبة والسياسيين القدامى.. هؤلاء الشباب عينهم على مصر حقا.. الكثير من شباب 25 يناير ترجموا سريعا ما تصدوا له منذ 13 يوما.. فتركوا ميدان التحرير واتجهوا إلى قلب مصر.. شعبها.
محمود ترك أحد هؤلاء الشباب.. درس العلاقات الدولية بقسم العلوم السياسية بجامعة حلوان.. كان مساعدا لرئيس مجلس إدارة إحدى الشركات، حتى ارتكب خطيئته الكبرى يوم 25 يناير.. فتم نقله إلى عمل آخر بشركته.. محمود ورفاقه من الشباب قرروا النزول إلى الناس.. فى المناطق التى تضررت جراء ثورة الغضب.. عبر حركة أسموها "25 يناير لبناء وتنمية مصر".. تسيير قوافل طبية.. وتقوم بتوعية المواطنين لإعادة المصالحة مع أفراد الشرطة.. الاهتمام بجمع القمامة وتنظيف الشوارع.. دورها سوف يكون اجتماعيا تنمويا وليس سياسيا.. اختاروا منطقة الزيتون مقرا لهم.. وبدأوا من هناك.. وهدفهم مصر المحروسة كلها.
وعى محمود ورفاقة من شباب 25 يناير.. لم تدركه النخبة المتمترسة فى ميدان التحرير بعد.. تلك التى ظهر أحد قادة حركة كفاية يتحدث عنها أمس على شاشة فضائية مصرية خاصة.. مصورا الوضع وكأنه احتفالية ثقافية أو كرنفالا.. واصفا "الفعاليات" بالزخم لا سيما ليلا.. بالسماعات المكبرة للصوت.. والأمسيات الشعرية.. واللافتات الضخمة التى تعنى "لا تفاوض ولا استسلام".. مخبئة وراءها، حيث تتمركز تلك النخبة، شارع محمد محمود العظيم.. شارع الجامعة الأمريكية.. المطل على ميدان التحرير.. وقد تحول إلى أكبر "مبولة" فى القاهرة.. فتلك النخبة تستثقل عبور الميدان فى اتجاه مسجد عمر مكرم لاستخدام دورات مياهه.. وتستسهل تحويل شارع عريق إلى دورة مياه عملاقة.. لا تسيئها الرائحة.. ولا تكترث بمئات السكان فى هذا الشارع والشوارع المحيطة.. ولا تعى أن كل الدعم الذى قدمه أولئك السكان للثورة فى بدايتها، قد يتحول إلى نقمة هائلة تدفع إلى غضب آخر.. يوجه عن طريق الخطأ إلى شباب واع.. قدم نموذجا لثورة راقية متحضرة "نظيفة".. تجرى عمليات تلويثها على قدم وساق.
محمود ورفاقه، الخارجين عن ميدان التحرير.. يزداد عددهم يوما بعد يوم.. وتلحقهم أعداد أخرى من المؤيدين إعلاميين، وفنانيين ومواطنين.. لتدخل ميدان التحرير وجوه جديدة.. بآليات جديدة.. ومنطق جديد.. ولكنى لا أخشى على ثورة أوقدها الشباب.. والتحم بها الشعب كله.. أن يتم تشويهها فى ميدان التحرير.. لأن الشباب الآن وسط الشعب فى كل الميادين فى مصر المحروسة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة