إن أسوأ ما فى الثورات هو اليوم التالى لنجاحها، وإن الشارع يمكنه أن يصنع ثورة، ولكن من الصعب تصور أنه يصنع نظاماً أو دولة، وأن الثوار يقعون فى خطأ كبير حين يكون همهم الأول هو نصب محاكم التفتيش للعهد القديم.
أعترف أننى ترددت كثيراً قبل أن أكتب هذا المقال، بل إننى ظننت أن دورى ككاتب قد انتهى بعد أن تحقق الحلم وهب الشباب هبته التى كتبت عنها عشرات المقالات، ففى ظل اليأس والضباب لم أفقد أبداً إيمانى بشباب مصر، وكنت أثق أنهم سوف يستعيدون روح آبائهم وأجدادهم، ولذلك كنت دائماً أكرر قصص البطولة فى حرب أكتوبر، وأقول بثقة لقد استطاع آباؤكم، وأنتم أيضاً تستطيعون.
وبالطبع لا أزعم أننى توقعت تاريخاً، ولكننى كنت أدرك أن الروح هناك، بل وكتبت أنه ربما لا أرى تجليات هذه الروح قبل أن أغادر هذه الدنيا.. لقد عشت هذه المرحلة شاباً بين شباب العبور، وأعرف يقيناً جوهر الإنسان المصرى التى توهجت فى اختبار ميادين القتال، وقدمت لشعب مصر لحظة فرح تاريخية أطلقنا عليها "روح أكتوبر".. وهى لحظة سرعان ما تلاشت لأسباب ليس هذا محلها، ولكنها موجودة بين سطور عديدة كتبتها وكتبها الآخرون.
ظننت – كما قدمت – أنه آن الأوان لانسحاب سطورى بعد أن سطر شبابنا أروع السطور خلال الأيام الماضية، معزياً نفسى بأن ما كنت أقوله دائماً عن تسليم عصا التتابع لجيل جديد قد حدث بالفعل، وأن الشباب قد أمسكوا بمصيرهم ومصير أمتهم وليس على الشيوخ أمثالى سوى إفساح الطريق لهم والتأهب لمغادرة المشهد إلى صفحات كتب التاريخ.
ترددت أيضاً فى الكتابة لأننى لاحظت حالة "إسهال" غير عادية فى السطور التى سالت تمجد فى "الثورة" وتلعن فى "العهد البائد"، وأكثرها لأقلام كم تغنت بذلك "العهد" الذى صار بين ليلة وضحاها "بائد".. انعقد المولد الجديد، واندفع الدراويش بمباخرهم يرقصون حول الولى الجديد وهم يتطوحون فى انبهار وإبهار.. وجدت أنه لا ينبغى المشاركة فى هذه "المكلمة"، خاصة أن الكتاب الذين اكتشفوا "ثوريتهم" مؤخراً قد لا يجدوا فيما أكتبه جرعة "ثورية" كافية.
ومع ذلك خشيت أن تتسرب "روح" يناير، كما تسربت "روح" أكتوبر.. وأن تضيع دماء شهداء ميدان التحرير، كما ضاعت دماء شهداء سيناء.. لذا قررت أن أكتب.
وأول ما ينبغى أن نتوقف أمامه هو مسألة التعريف، كى نحدد بدقة ما الذى حدث، فهل نحن حقيقة فى مواجهة "ثورة".. أظن أن أى دارس للتاريخ والعلوم السياسية يعرف ما هو تعريف الثورة، فهى بشكل عام تعنى نزع جذور نظام سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى وتنظيف التربة لبذر نظام جديد، فهى ليست مجرد تغيير الحاكم أو الوزارة أو إبعاد الحزب الحاكم، ليست مجرد فصل لمجموعة أشخاص وإحلال أشخاص محلهم، ليست مجرد شعارات حماسية بلا مضمون، ليست مجرد احتلال لميدان أو مجموعة ميادين.
أن ما حدث على أهميته وجلاله هو انتفاضة غاضبة، وقد كان ذلك هو الإسم الأول "ثورة الغضب"، أى مجرد صيحة احتجاج قوية ومزلزلة تمحورت حول شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم تتالت الأحداث التى نعرفها حتى كتابة هذه السطور، وأهمها تخلى الرئيس عن منصبه، وتوالت الهتافات والأغانى بانتصار "الثورة".
من نافلة القول أن أذكر أنه من السهل أن تهدم وأن الصعب هو البناء.. فمن الممكن الهدم بشكل أعمى، ولكن البناء يتطلب رؤية ورسم هندسى محسوب بدقة ومهارة وكفاءة فى التنفيذ وزمن لا مناص من مروره، والأهم هو توافر روح الفريق والتصميم على الهدف، والرقابة وممارسة النقد الذاتى.
أعرف أن "الثوار" لديهم رؤية محددة: "دولة مدنية ديمقراطية حرة"، وهو عنوان هائل لمجتمع توجد به نسبة هائلة من الأمية، ونسبة هائلة تعيش تحت خط الفقر، ولا تزال النخب المعتبرة فيه تتصارع مثل الديكة على السلطة والثروة.. أعرف أيضاً أن "الثوار" يريدون تغيير الدستور، والواقع أن الدستور الحالى يحمل العديد من المبادئ والقواعد التى لا غبار عليها فيما يتعلق بالحقوق والحريات، وأى تغيير محتمل سوف يتعلق بالنظام السياسى والقواعد الحاكمة للسلطة السياسية وأسلوب ممارستها، فإذا كان النظام القانونى هو انعكاس لمدى تطور المجتمعات، فهل يمكن لأى وثيقة – وحدها – أن تطور المجتمع.. أتذكر هنا الدساتير المختلفة منذ دستور 1923 وحتى دستور 1971، وأتذكر أن "محترفى" السياسة كانوا يتنقلون بين الأنظمة القانونية المختلفة بسهولة ويسر، ويكفى تصفح الوجوه كى نتبين هذه الحقيقة، فهناك من تنقل من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى إلى حزب مصر إلى الحزب الوطنى الديقراطى، وربما ينضم الآن بحماس إلى حزب "ميدان التحرير".
أعرف أيضاً أن أحد الشعارات المعروفة هو "العدل الاجتماعى"، ومحاربة "الفساد"، ولكن العدل الاجتماعى يتطلب تنمية اقتصادية ( وليس مجرد نمو )، وثقافة مجتمعية اشتراكية، كما أن "الفساد" ليس قيمة مطلقة وإنما ثقافة وسلوك، وهو مثل أى ثقافة وسلوك يتطلب ثقافة وسلوك مضاد ولفترة غير بسيطة من الزمن.. ومن ناحية أخرى، فأن مجرد رفع الشعار لا يعنى تحقيقه فى الواقع، فقد كان ما يسمى الآن "النظام البائد" يعلن تكراراً انحيازه للمعدمين، وحربه على الفساد والمفسدين.
خلاصة القول أن ما حدث فى مصر هو انبعاث للروح، لا تختلف كثيراً عن الروح التى بعثها شباب مصر فى عبور قناة السويس، والمهمة الأولى الآن هى الحفاظ على قوة الدفع وحماية هذه الروح من أن تلوثها النخب الفاسدة، لقد كانت روايتى الأولى ( أشجار الصبار ) قبل ما يزيد على ربع قرن، تحكى عن مجموعة من الجنود العائدين بعد حصار فى الجبهة وتم احتجازهم فى قسم الأمراض النفسية، محاولة لعزلهم حتى لا تنتقل عدواهم إلى المجتمع، وأتصور أن ذلك هو ما حدث بالضبط، ولا أتمنى حدوثه لروح يناير.
أن روح يناير الغاضبة يجب أن تكون طاقة للبناء بشكل علمى صبور، تتحرك خطوات محسوبة إلى الأمام وتنتشر كنار مباركة فى أضلاع السياسة والاقتصاد والثقافة وسلوك البشر، وعندما يتحقق ذلك فإنها سوف تستحق وصف "الثورة" التى تحقق طموحات كل إنسان على أرض مصر فى الحرية والكرامة والمساواة.
• عضو اتحاد الكتاب المصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة