يبدو أننى فعلاً -كما قال لى أحد أصدقائى- لا يعجبنى العجب ولا الصيام فى رجب، لكننى لا ألوم نفسى على هذا الاعتراض شبه الدائم على الأوضاع والذى يضعه البعض فى خانة «خلقتُ لأعترض» لأننى ببساطة لم أكن أجد مساحة حقيقية للاعتراض على وضعٍ ولا شخصٍ ولا قرار إلا إذا كان فيه -حقّاً- من الأسباب ما يجعل اعتراضى عليه منطقيّاً ولو نسبيّاً. «الجنزورى» الذى جاء من المجهول استجابة لطلبنا فى التحرير وميادين مصر لإسقاط حكم العسكر، كردٍ مستخفٍّ بعقولنا ودماء رفقائنا التى سالت على يد المجرمين من الشرطة والجيش، وكأننا نعيد نفس سيناريو الغباء السياسى والعقلى الذى تسبب فى نجاح نسبى للثورة فى بداياتها، فكلما طلبنا من «المخلوع» التنحى أقال لنا وزيراً،أو غيّر لنا وزارة، أو عدّل قانونا، أو حلّ برلمانا.. إلخ، وكأن العاهة الحقيقية التى أصيب بها حكامنا -سابقاً وحاضراً- هى عاهة الصمم.
صحيح أن الكثيرين ممن لا يعرفون حقيقة الجنزورى -أو يعرفونها- يقبلون بوضعه الحالى تحت دعوى الاستقرار ذاتها التى ترتكب باسمها كل الجرائم فى بلدنا، لكننى لا أظن أن ثائراً حقّاً قد يقبل برجل عاش قرابة نصف عمر حكم مبارك يتقلّد المناصب المختلفة ويقسم اليمين أمام رئيس مزوِّر جاء بالبلطجة والقمع والإرهاب، وكان رئيس حكومة فيها المجرم حبيب العادلى، وكمال الشاذلى ويوسف والى وغيرهم ممن شاركوا مباشرة فى قتل هذا الوطن وتدميره، كما ساهم مباشرة فى تفكيك الاقتصاد المصرى وبيع القطاع العام من أجل عيون الحلف «الصهيوأمريكى» الذى قرر معاقبتنا فى اقتصادنا بعد علمه بأن القطاع العام كان سبباً رئيساً فى انتصار 73.
المجلس العسكرى أتى بالجنزورى فى هذه المرحلة ليكون مُحلِّلاً لعلاقة غير شرعية بين المجلس والثورة -أو البلاد- وتشهد عليها قوى سياسيّة قررت بيع دماء الشهداء وتطلعات الثوّار بعدة مقاعد فى البرلمان، وأتى بالجنزورى أيضاً ليكون كبش فداء -إن لزم الأمر- الذى يقدّم فى سبيل إلهائنا عن مطلبنا الأساسى «إسقاط الحكم العسكرى» لتتحوّل المطالب إلى رفض حكومة الجنزورى بدلاً من إسقاط المجرم الحقيقى ومعاقبته، لكن يبدو أن العقلية الغبيّة التى تحكمنا لم تتعلّم الدرس من صديقها المخلوع، إذ إن الشعب الذى ثار بعد هذا السُبات العميق لا يمكن بأى حالٍ أن يعود لنومه ثانيةً، ولو قدّم لذلك المال والجهد والدم، والحياة.
«الحريّة .. أو الدم»