عمرى فوق الأربعين عاما عشت جله فى ريف مصر وجدت الدنيا من حولى وأنا صغير واسع براحها نقى هواؤها مفتوحة سماؤه، أرى الليل وقمره ونجومه كحبات فول مبذور فى الفضاء، وكعقد من الزجاج اللامع تلبسه ست الحسن والجمال وهى ذاهبة لحبيبها بالحقل يزكى عطرها الأنوف ويعكس بياض وجههاأشعة الشمس فتداريها من تلصص العيون، تحمل له الطعام فوق صينية من النحاس وتضع لفة صغيرة من القماش تحت الصينية حتى لا تؤثر فى رأسها الجميل ،تتمايل كالغزال مع كل حجر صغير يسقط تحت قدميها فتتراقص قلوب كل من يشاهدها.
وكنت أمقت حر الشمس وأتلذذ بظل الشجر وأوراقه وأفرعه المتدلية على صفحة الترع ة وهى تحجز خلفها الشوائب والأعشاب الجارية فى الماء وكأنها مصفاة لتنقية النهر حتى يبقى له لونه ونقاؤه إلى الأبد، وأستمتع بدفء أشعتها وهى ساقطة متدلية على استحياء فى الشتاء.
وعلى الجانب الآخر من بعيد أرى كومة من الطين تغطى الأرض عبارة عن بيوت مهدمة من الطوب اللبن معروشة من جزوع النخيل والأشجار تعلوها كومة مختلطة من أعواد القطن والذرة والقش مرصوصة عليها فضلات البهائم فى شكل أقراص تستخدمها جدتى والنساء فى طهى الطعام بالكانون وخبز العيش فى الفرن والتدفئة فى عز برد طوبة وأمشير، وترى فيها حظائر البهائم أمتن وأقوى من بيوت الفلاحين لأنها تمثل له العزوة والمال فكان يكسوها بالخيش فى الشتاء، بينما هو يسير حافيا تحلم قدماه بالدفء فى الصقيع ويمشى مهربد الملابس عريانا فى الصيف مرتديا هلاهيل السنين فى البرد، يصنع عمى عرفات للمتيسرين منهم شرزا من صوف الغنم يظل يغزل فيه شهورا ويلفه على أعواد القطن المتينة وينسجه شهورا أخرى ويحصل فى النهاية منهم على الملاليم، وكان يقى نفسه وأولاده من برد الليل بحمل من الصوف ثقيل الوزن يكتم الأنفاس ولا بديل عنه تتوارثه الأجيال كابرا عن كابر.
وبرغم ماكان يحيا فيه الناس من فقر وضيق فى الرزق وقتر فى العيش، إلا أنهم كانوا يعرفون من أين تأتى الفرحة فالبسمة لا تفارق وجوههم، أحلامهم كانت أبسط من حلم النملة، فأقل شىء يسعدهم حتى أن الدنيا كانت لا تسعهم فتصعد زغاريدهم للسماء، لا يبالون بالحاجات ولا يهمهم إلا قوت يوم لا يحلمون بغدهم فغدهم قادم أيا كان سوف يستقبلونه بحلوه وبمره وسيواجهونه كشجر الكافور عاليا شامخا وسط الريح لا تهزه ووسط الأعاصير فتضرب جزوره الأرض فتخترقها أكثر وأكثر وتحيا على مر الزمن لا تشكو ولا تبلى.
ورغم مرور الأيام وحياة المدنية الحديثة ما زلت أسترجع فرحة الأعياد التى كنا نتشممها قبل قدومها نعد لها الأيام والساعات ونحلم مع قدوم كل مناسبة بأجمل ما فيها، فمولد النبى ننتظر حلاوة المولد والجمل الملون للأولاد والعروسة ذات الخمار للبنات، ويوم عاشوراء تستعد الأفران لقدومه بعمل الرز المعمر والبسبوسة، ناهيك عن شهر رجب أو رجبية كما كان يطلق عليها فيبدأ عمل الكحك والفطير والبسكويت، أما رمضان فحدث ولا حرج عن أيامه ولياليه، والعيد الصغير والعيد الكبير كلها أيام كانت معدودة فى حياة الفلاحين، ترتسم فيها البهجة على الوجوه وتحيا الناس فيها وكأنها طيور فى الهواء من شدة السعادة التى لا يمكن وصفها تشعرها تحسها ثم تتذكرها فقط، فكانت القلوب تلتقى والأيادى تتشابك وتحلو اللمة وأحاديث الأنس والسمر على ضوء القمر، وحواديت ألف ليلة وليلة والشاطر حسن وست الحسن والجمال وأمنا الغولة وسيرة أبو زيد الهلالى فى الراديو ومديح الرسول وأغانى التراث، كلها كانت تمثل بالنسبة لأهل قريتى سعادة لاحدود لها.
ولم يكن يعدل تلك السعادة إلا ذبح ذكر بط أو عتقية مزغطة أو وزة سمينة تظل جدتى تطعمها حبات الذرة عنوة وتسقيها الماء بفمها حتى تسمن وتربى اللحم الطرى ليوم العيد، وكنا نجلس على شريطين مصنوعين من نبات السمار تفرشهم أمى فى الصالة للأعياد وللأفراح فقط،أما باقى العام فكانت جدتى تخفيهم تحت الأرض وتفرش الشريط القديم البالى الذى كنا نجلس عليه ونصف مقعدتنا عليه والنصف الآخر على الأرض، ثم توضع فوق الشريطين الأبيضين الطبلية الخشب التى صنعها سليمان النجار، وكنا جميعا نلتف حولها مزنوقين ومقرفصين تمتد أيادينا الصغيرة نحو أنجر الفتة وتغوص أسفله علها تجد قطعة من قشيم الدهن أو تتلصص فتسرق حبات الأرز المفلفل بالسمن البلدى والذى كنا لا نراه أو نسمع عنه إلا فى الأعياد والمناسبات، ويضع جدى إلى جواره دكر البط ويبدأ فى تقسيم الزفر علينا، ونرى أصابعه وهى تغوص فى اللحم والدهن وهو من حين إلى آخر يزجرنا حتى لا تعلو أصواتنا ويأتى الجيران فيشاركوننا الوليمة وفجأة نجده يلوك قطعه ملبسة من اللحم والدهن معا تسيل من فمه، فنقول له بسرعة "ياجدى هات النايب بتاعى إنت هتخلص لنا اللحمة"، وبعد أن ينتهى من التوزيع يضع كل قطعة فى نصف رغيف من العيش الماوى، كما نسميه، وهو من القمح الخالص لا يصنع إلا فى المواسم وللضيوف فقط، ثم يختارجدى من بيننا واحدا للتوزيع وفى الغالب يكون أنا فأنا المدلل لديه والأول عنده بين أقر أنى فكنت أقف مغمض العينين ويقول هو مناب من هذا؟ فأقول نايب أبى ثم جدتى وأمى وأعمامى حتى ينتهى التوزيع فأجلس إلى جواره فأجد معه لفف أخرى من اللحم أسأله لمن هذه؟ فيقول علشان نفطر بيها أنا وأنت، وفى النهاية أجده يعطيها لزوجته الجديدة المحظية عنده فجدتى راحت عليها كما كان يقول دائما، ثم ينادينى فى الصباح فأستيقظ مسرعا وأحمل له إبريق الماء الدافئ حتى يتوضأ وأنا بعده ثم نصلى الصبح وتحضر أمى له القصعة والقوالح ويبدأ فى إشعال النار، وهنا تخرج اللحمة المتبقية كى نلتهما سويا وكم كان طعمها لذيذ وهى باردة بالعيش المقمر على الكانون أو فحم القوالح المتبقية من ثمار الذرة ونحبس بعدها بالشاى.
وكانت سعادتنا نحن شيئا آخر بالعيد فقد كان جدى يأخذنا إلى دكان عمى فتحى ويشترى لنا قطعتين من القماش، إحداها بفت تصنع أمى الماهرة فى الحياكة بماكينتها لى ولأخى الأكبر ولأعمامى الذين كانوا يقاربوننا فى العمر قمصانا نلبسها فى الصيف، والقطعة الأخرى من القماش الملون والمزركش وكنت دائما ما اختار اللون الأزرق لتصنع منه أمى جلابية العيد والتى ستكون أيضا جلابية المدرسة، وما يتبقى من قصاقيص القماش كانت تصنع لنا شنطة المدرسة ذات العلاقة الطويلة لنضعها فوق الرقبة نحملها ونجر أقدامنا ببطء نحو المدرسة صباحا ونحملها آخر اليوم ونعدو فى سباق يومى دائم إلى البيت،أما ليلة العيد فقد كانت لها طقوس، خاصة وأحلام مازلت أستشعرها.
واليوم وبعد مرور السنين لا أجد من العيد إلا ذكراه ومن لمة الناس إلا حواديت زمان ومن الحب إلا ما سمعناه قديما، وتمنيت أن عاد بى الزمن الجميل وظل واقفا عن دورانه أو دار وحده وتركنى فى ذكرياتى أتلذذ بها حتى يستشعر قلبى الدفء كما كان، لتمنيت أن عدت إلى زمن السعادة الحقيقية والبشر الأسوياء وأرض الطين والتراب، حتى لو لم أجد من دنياى إلا القليل فتكفينى دنيا البراح أستنشق فيها نفسا خاليا من الأمراض وترتاح عيناى بين أعواد الذرة والبرسيم ويهدأ عقلى من متطلبات الحياة فما أجمل أيام الطين والتراب.
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد رجب صقر
ما شاء الله عليك