تحولت المدن العربية الكبرى خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، إلى غابات من الأسمنت، ومع أن قليلا منها قد خضع لتخطيط مسبق، يوازن بين الكتلة المبنية والكتلة الفارغة، وبين الأسمنت والخضرة، وبين حق السكن وحق الطريق، فإن معظمها قد اتسع رأسيا وأفقيا طبقا لخطة عشوائية لا تضع فى اعتبارها شيئا، إلا مجرد الربح من وراء أزمة الإسكان الخانقة فى تلك المدن، بتحويل كل أرض فضاء أو خضراء إلى أبراج سكنية وإدارية قبيحة الشكل.
ولأن المدينة العربية، لم تولد ولادة طبيعية لتكون- كغيرها من مدن العالم- مركزا للتجارة والصناعة، بل نشأت لتكون-فقط- مركزا للإدارة والحكم، فاحتكرت الخدمات، فقد توسعت بلا ضرورة وتضخمت بلا سبب، حتى أصبح الكثير منها أقرب ما يكون إلى ورم سرطانى منه إلى مدينة!
ومع أن الاهتمام بإعادة التوازن بين سكان الحضر وسكان الريف يتصاعد بين الحين والآخر، حتى يصل إلى التفكير فى إعلان بعض المدن مناطق مغلقة على سكانها الأصليين، لوقف الهجرة العشوائية إليها، فإن الحماس للتنفيذ سرعان ما يخمد أمام الصعوبات الكثيرة التى تجعل من هذه الفكرة طائرا غير قابل للتحليق، فضلا عن أنها تصادر أحد حقوق المواطنة، وهو حق التنقل.
وحتى وقت قريب كنت أظن أن النمو العشوائى للمدن العربية ظاهرة حديثة، وأن البحث عن حل لها ظاهرة قريبة، لولا أن «المفتقر لعفو ربه العلى.. أبو حامد المقدسى الشافعى»- المتوفى عام 1488م-لفت نظرى إلى أن المشكلة قديمة، تعود إلى أكثر من خمسمائة سنة، مما دفعه إلى تأليف كتاب بشأنها سماه «الفوائد النفيسة الباهرة فى بيان حكم شوارع القاهرة فى مذاهب الأئمة الأربعة الزاهرة»، فازداد يقينى بأنه لا جديد تحت الشمس العربية!
والحكاية أن السلطان المملوكى «قايتباى الكبير»-الذى كان يحكم دولة عربية تضم مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والحجاز، وتمتد من حدود ليبيا إلى الفرات ومن شمال حلب إلى جنوب الجزيرة العربية- لاحظ فى عام 1477م-أن الهجرة المتزايدة إلى القاهرة، من جميع أنحاء السلطنة، والبناء العشوائى فى أحيائها، قد انتهت إلى فوضى عارمة، فقد جار الناس على حق الطريق، فتركوا الأوحال تتراكم فى الشوارع حتى فقدت استواءها، وامتلأت بالحفر والمطبات وبالمرتفعات والمنخفضات، واقتطعوا أجزاء منها ليقيموا المصاطب، والدكك أمام بيوتهم، وأخرى ليمتدوا بسلالمها الخارجية إلى عرض الطريق، واستولى بعضهم على فضاء الشارع ليقيم جسورا علوية على مستوى منخفض تربط بين البيت وملاحقه، وبنى آخرون بيوتا بل ومساجد، فى مداخل الشوارع النافذة فسدوها أمام الناس، بينما احتل الباعة الجائلون نهرها، وبذلك اشترك الجميع فى هضم «حق الطريق» وهو من الحقوق الأساسية التى كفلتها الشريعة الإسلامية لعموم المسلمين.
وهكذا أصدر السلطان «قايتباى» أمره إلى الأمير «يشبك الدوادار» بالإشراف على تسوية وتوسيع الطرقات والشوارع والأزقة، وبهدم المبانى التى أغلقت الطرق النافذة، والأسقف التى يحول انخفاضها بين الناس وبين المرور من تحتها، والمصاطب والدكك والسلالم التى يغتصب أصحابها مالا ليس من حقهم، وأن يستعيد للمسلمين حقهم المشروع فى الطرق العامة.. ولما قاوم أصحاب تلك الأبنية قرار السلطان، أحال الأمر على القاضى «فتح الدين السوهاجى» الذى أفتى بجواز ذلك، وقال إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أشار بهدم ما يعترض الطريق حتى ولو كان مسجدا.
وأنجز الأمير «يشبك» العمل فانصلح حال ميادين القاهرة واتسعت الشوارع، وانكشف عنها السواد والظلمة وأشرقت وأنارت وزال عنها الغم والغبن.. ومع أن دعاء العامة لمن كان السبب فى ذلك قد تصاعد، إلا أنه عاد بالضرر على جماعة من الناس بسبب هدم مبانيهم، فأثاروا مناقشة حول.. صواب ما أمر به السلطان وما نفذه الدوادار وما أفتى بشرعيته القاضى.
وفى هذه الرسالة التى لا يزيد عدد صفحاتها على 46 صفحة جمع «المقدسى» الأحكام الفقهية التى تتعلق بالطرق والشوارع والمطلات عليها واتساعها وارتفاع المبانى على جانبيها، وهى تتفق فى أن لكل المسلمين حقا متساويا فى الطريق النافذ، فلا يحق لأحد أن يسدها عليهم، بمبنى يبنيه حتى ولو كان مسجدا، أو يضيق عليهم بمصطبة أو سلالم يمتد بها إلى نهره، ولا يجوز لأحد أن يسقف الشارع أو جزءا منه بطريقة تحرم الناس من الشمس أو على ارتفاع يحول بين الفارس وبين المرور وهو راكب فرسه ورافع رمحه، أما تحويل الشوارع إلى أسواق، وإقامة طبالى للبيع أمام أبواب المساجد فهو حرام قطعا، لأنه يضيق على الناس طريقهم إلى بيوت الله، وإلى اكتساب معايشهم، وإذا ضاقت الطرق ضاقت الأخلاق، وهى عبارة جميلة، ختم بها «المقدسى» كتابه، وكأنه كان يعلم أنها الحقيقة.. التى ينبغى لمنظمة المدن العربية أن تعيها وأن تتخذ منها شعارا.
عدد الردود 0
بواسطة:
عقاب
اخرجوا مصر من القاهره قبل ان تخرج من التاريخ
عدد الردود 0
بواسطة:
أبوكريم - دبي
إلي رقم 1
عدد الردود 0
بواسطة:
Walid Khier
هذا نصف حل سيد عقاب