تثير أحداث اليوم بالسودان ذكرى ما حدث بالأمس، أصيب مستقبل القومية العربية حينها بجرح غائر أحدثه سكين الاستفتاء الأول على يد القادة المصريين فى الخمسينات ليستقبلوا انفصال السودان بهدوء وترحاب مثلما يستقبله اليوم القادة السودانيون فى استفتاء ثان.
حرمت الرؤية القاصرة شعوب الأمة العربية من فرصة مبكرة لنشوء قطب أعظم بكيان موحد يضم مصر والسودان. كان هذا الكيان كفيلا بثرواته البشرية والطبيعية، ومنظومتيه العلمية والإدارية المنضبطتين آن ذاك بمصر، أن يكون النواة القوية المستقرة التى تلتئم حولها الشعوب العربية فى وحدة بالتدريج. كانت الفرصة ذهبية، وكانت تعد بمستقبل أكثر إشراقا للسودانيين وإخوانهم المصريين، بل وللعرب أجمعين مما نراه الآن.
أخطأ القادة المصريون عندما بادروا بتغيير وضع كان قابلا للاستمرار باستفتاء كان غير معيب فى فكرته، ولكن فى توقيته الذى أجهض أى محاولة مصرية للتنمية على أرض السودان، تجعل أهله يتذوقون ثمارها، وتتجسد أمام أعينهم الأفاق الرحبة التى كانت لتتفتح بتعاون أهل وادى النيل معا، لا شك أن هذا كان كفيلا بتغيير نتيجة أى استفتاء لاحق.
أدرك السادات أن إهمال المشاركة فى تنمية السودان يعرض أمن مصر القومى للخطر، ويشارك فى خطيئة استمرار تفتيت وحدة وادى النيل التى كانت مستقرة فى وجدان أهله، بالرغم من تحمس الرئيس النميرى وقتها للانفتاح على مصر، وإطلاق التعاون المشترك من أجل التنمية، إلا أنه كان قامعاً لشعبه مما أثار قلاقل شعبية هددت حكمه، تدخل السادات وقتها عسكريا دعما للنظام الذى يتبنى الانفتاح على مصر، مما أثار حنقاً وضغينة لدى كل من ثار على النميرى. أضاع النظام فى مصر الفرصة التى سنحت عندما تولى الفريق سوار الذهب حكماً انتقالياً فى السودان، ولم ترمى مصر بثقلها فى تنمية عمقها الاستراتيجى حفاظا عليه، ومداواة لضغينة بقيت منذ حكم السادات.
جاء الصادق المهدى بحكم ديمقراطى للسودان، ولكنه كان حكماً حانقاً على مصر أغلق كل باب للتفاهم والتعاون.
انقلب البشير والترابى على الحكم الديمقراطى، واستقطب قطع يد السارق ورجم الزانى جل انتباههم فى بلد يرزح، خاصة فى جنوبه، تحت وطأة الجوع والجهل وافتقاد التنمية. استأنف الجنوب رحلة الانفصال النفسى والفعلى التى بدأت بذرتها أيام النميرى، وفقد النظام فى مصر اهتمامه بتقديم أى مبادرة حقيقية لتنمية السودان بالجهد المصرى، وبحشد الأموال العربية الكافية لتغيير دفة الأحداث على أرضه، وكان من المحتمل لجهد مصرى دءوب خلاق أن ينجح ليس فقط فى إنقاذ عمقنا الاستراتيجى من التفتت، وإنما فى إطلاق فيض من الخير يعم أهل وادى النيل.
يأتى اليوم والانفصال يتحقق فى الإعادة الثانية لاستفتاء سبق على طريق طويل من نقص الرؤية.
هل تبادر مصر اليوم ببناء الجنوب المنهدم، وهل تتدخل بالتنمية والمساعى الحميدة فى أطراف متوترة للسودان قد تسلك بالمثل طريق الانفصال، أم تسود رؤيتنا اللامبالاة، ويترك ذلك للصين وإسرائيل وآخرين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة