"بنى صريد"، قرية صغيرة تتبع مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، اتجهت إليها الأنظار منذ أيام بعد الحادث المأساوى الذى شهده طريق فاقوس-أبو شلبى، وراح ضحيته 10 من أطفالها، والذين دفعتهم ظروفهم المعيشية التى تنخفض بكثير عن خط الفقر للعمل فى فرز محاصيل البرتقال بالمزارع المحيطة بالقرية مقابل جنيهات معدودة.
وكان الحادث قد وقع عقب تصادم سيارة نصف نقل كانت تقل عددا من الأطفال فى طريقهم إلى عملهم فى الصباح الباكر بشاحنة محملة بأنابيب البوتاجاز، والآن يتلقى ثلاثون طفلا العلاج بعد أن تفاوتت إصاباتهم، "اليوم السابع" زارت القرية لتستطلع أحوالها عن قرب.
تقع بنى صريد فى أطراف محافظة الشرقية، ويفصلها ما يقرب من ساعتين عن مدينة الزقازيق، و يتبعها 24 عزبة صغيرة، بينما لا يربطها بالعالم الخارجى سوى طريق زراعى ضيق تسير فيه السيارات بالاتجاهين، وبمجرد دخول القرية تستقبلنا وحدة صحية صغيرة ومدرسة ابتدائية ومعهد أزهرى، فى حين تبتعد المدارس الإعدادية والثانوية 2 كيلو متر عن القرية، وتبدو البيوت التى تضم حوالى العشرة آلاف شخص هم تعداد سكان القرية تقريبا شديدة البساطة والفقر فى آن واحد، ولا تعلو أغلبها عن طابقين.
أمام المدرسة الابتدائية، فقابلنا أحد المدرسين الذى رفض ذكر اسمه، مؤكدا فى الوقت نفسه لـ"اليوم السابع" قسوة الظروف المعيشية التى يعانى منها أهالى القرية، حيث إن الكثير منهم يعملون فى جنى المحاصيل بالمزارع المحيطة بالقرية مقابل أجر يومى، وهذه تعبر المهنة الوحيدة لهم، لأن الحرف الأخرى تدر أجرا أقل بكثير، خاصة بالنسبة للأطفال الصغار، مشيرا إلى أن غالبية الأطفال بالقرية ملتحقين بالمدرسة الابتدائية، إلا أنهم يعملون فى محطات الفرز الملحقة بالمزارع خلال أيام إجازاتهم، بل قد يضطرون إلى الغياب عن المدرسة للعمل بهدف مساعدة عائلاتهم.
وأضاف أن القرية تعانى من نقص شديد فى كافة الخدمات كالصرف الصحى ومياه الشرب والكهرباء، أما بالنسبة لنواب مجلس الشعب والذين تقع القرية فى نطاق دائرتهم الانتخابية، فأكد المدرس أنهم لا يرونها إلا كل 5 أعوام أثناء الانتخابات، وبمجرد نجاحهم يديرون ظهورهم للقرية.
كما قابلنا أمام المدرسة عددا كبيرا من الأطفال منهم حسين الذى يبلغ من العمر 13 عاما، ويعمل فى المزارع فى أيام إجازاته من المدرسة، والذى وصف لنا يومه بالعمل قائلا: إنه يبدأ فى السادسة صباحا بالذهاب إلى إحدى العربات التى يأتى بها "مقاولو الأنفار"، و هم 6 مقاولين معروفين بالقرية، لجمع العمال، تمهيدا للتحرك فى تمام السابعة صباحا للذهاب إلى المزارع بمنطقة الصالحية الجديدة، والتى تبتعد عن القرية مسافة تزيد عن الخمسين كيلو متر.
وأضاف: "نقوم من الساعة الثامنة صباحا إلى الثالثة عصرا بفرز المحاصيل لاستخراج الثمرات الفاسدة منها، قبل أن نعود مرة أخرى إلى بيوتنا بعد أن نحصل على "يومية" تتراوح بين عشرة إلى 15 جنيها، فى الوقت الذى أشار فيه محمد البالغ من العمر 15 عاما، إلا أن مقاولى الأنفار يقومون بجمع العمال من القرية، بدءا من عمر السادسة، فى سيارات نصف نقل مخصصة لهذا الغرض، ثم يوزعونهم على أماكن فرز محاصيل البرتقال، حيث يتم إعطاء العامل الواحد عشرة أقفاص فارغة كى يقوم بملئها على مدار اليوم مقابل 15 جنيها يوميا، بينما يحضر كل شخص طعامه معه لأن أصحاب العمل لا يوفرون وجبات لنا، مؤكدا على أن الحادثة التى راح ضحيتها 10 من أطفال القرية ليست الأولى من نوعها، حيث شهدت قرية "المغربى" المجاورة حادثة مشابهة منذ أشهر راح ضحيتها عدد من الفتيات الصغيرات.
وأثناء جولتنا بالقرية، استقبلنا الحاج إسماعيل فى منزله المتواضع، مؤكدا على أن أطفال القرية يضطرون للعمل منذ صغرهم بسبب البطالة التى يعانى منها أولياء أمورهم، فلا يوجد لأهالى القرية مهنة سوى العمل بالمزارع التى لا يملكون أيا منها، بالإضافة إلى أن الكثافة السكانية مرتفعة جدا بالقرية، فالأسرة الواحدة لديها ما لا يقل عن 5 أطفال فى الوقت الذى يقل فيه دخلها مع الزيادة المبالغ فيها لأسعار السلع الغذائية، قائلا بحزن: "بالنسبة للحادثة فقدر الله وما شاء فعل، إلا أننا نحتاج إلى اهتمام حقيقى من جانب الدولة لأن وضع القرية فى غاية السوء، وكلما حاولنا مخاطبة المسئولين لا نجد أى استجابة".
وأضاف أن الأهالى منذ أن وقع الحادث امتنعوا عن الدفع بأبنائهم للذهاب إلى تلك المزارع، كما أن مقاول الأنفار المسئول عن جمعهم لم يظهر بالقرية منذ ذلك اليوم، إلا أن هذا الوضع لن يستمر طويلا بسبب الفقر الشديد.
وفى الطريق الواصل بين القرية والصالحية الجديدة، والذى شهد الحادث، مازالت السيارتان اللتان تسببتا فى الحادث موضوعتين على جانبى الطريق رغم مرور أيام عليه، وهناك نجد أيضا أحذية الأطفال ملقاة داخل وبجوار السيارة نصف النقل التى كانت تقل عددا من الأطفال، وبجوارها عدد من الأكياس البلاستيكية تحتوى على أرغفة خبز كانت معدة لتكون غداءهم فى ذلك اليوم الطويل، إلا أنهم رحلوا وظلت هى لتشهد على مأساتهم.
وبمجرد النظر إلى ذلك الطريق الأسفلتى ندرك خلوه من كافة معايير الأمان، فهو طريق ضيق يمر بين أرض زراعية وإحدى الترع ، وهو مكون من حارتين تسير فيه السيارات فى الاتجاهين دون وجد فاصل بينهما أو أعمدة إنارة ، مما يجعل وقوع الحوادث عليه أمر فى منتهى السهولة خاصة مع الشبورة الكثيفة التى تتكون بالمناطق الزراعية فى ساعات الصباح الباكر.
وخلال ساعتين منذ خروجنا من "بنى صريد" ، صادفنا عدد من السيارات نصف النقل المماثلة للسيارة التى وقع لها الحادث محملة بالركاب، العائدين إلى قراهم بعد يوم عمل طويل، حيث تعد تلك السيارات غير الآمنة هى وسيلة المواصلات فى تلك المنطقة، إلى أن وصلنا إلى محطة فرز محصول البرتقال التى أرشدنا إليها أهالى القرية بمنطقة الصالحية الجديدة، حيث يتم داخل هذه المحطة فرز ثمار البرتقال لاستخراج الثمرات الفاسدة من المحصول والتخلص منهما، ثم تغليف لثمار تمهيدا لتصديرها، إلا أن المسئولين بالمحطة رفضوا إدخالنا بحجة سفر المدير العام للشركة.
فى واحد من أكثر بيوت القرية فقرا، يسكن عبد الحميد إبراهيم مقاول الأنفار الذى قام بجمع العمال يوم الثلاثاء الماضى للذهاب بهم إلى محطة الفرز الذى يعمل لحسابها، إلا أن ذلك اليوم الذى بدأ كأى يوم عمل آخر بالنسبة له، انتهى بحادث مأساوى راح ضحيته 10 أطفال، حيث أكد لـ"اليوم السابع" أن أهالى القرية توقفوا منذ ذلك اليوم عن إرسال أبنائهم للعمل حزنا على موتاهم، وخوفا من تعرض أبنائهم لنفس المصير، مؤكدا أنه لا يعرف متى ستنتهى تلك الحالة حتى يعود لعمله الذى يعول بأجره القليل أسرته الكبيرة المكونة من 10 أفراد وهم والداه وزوجته وأبناؤه الأربعة، بالإضافة إلى أخواته الثلاثة.
وأضاف أنه يعمل كمقاول أنفار منذ 18 عاما، حيث يقوم بجمع العمال من قرية بنى صريد لفرز محصول البرتقال فى الشتاء والفول السودانى فى الصيف، وذلك على حسب العدد الذى تحدده له الشركة التى يعمل لحسابها دون عقد مقابل جنيهين، جنيه عن العامل الواحد وجنيه عن السيارة نصف النقل التى يقوم بتأجيرها لهذا الغرض، على أن يحضر كل عامل طعامه معه، ليبدأ اليوم منذ السابعة صباحا لينتهى فى الخامسة والنصف مساء، وتعد أيام الإجازات من المدارس هى الموسم الأعلى إقبالا على العمل، مقابل أيام أخرى لا نجد بها العدد الذى تطلبه الشركة، مشيرا إلى أن الظروف القاسية تدفع أطفال القرية للعمل منذ سن 6 سنوات، قائلا "أنا متعود آخد عيالى الأربعة عشان يشتغلوا فى المحطة ، بس ستر ربنا أنهم فضلوا فى البيت يوم الحادثة"، كما أن مالك السيارة نصف النقل التى قام بإيجارها لم يطالبه حتى الآن بأى تكاليف لإصلاحها لمعرفته بفقره الشديد.
وحول القوانين التى تضع شروطا محددة لعمل الأطفال مثل قانون الطفل 126 لسنة 2008 ، أكد عبد الحميد أنه لم يسمع من قبل عن تلك القوانين، خاصة وأن جميع أطفال القرية يعملون بالفعل، بل إن النسبة الأكبر منهم يتوقفون عن الدراسة بسبب الفقر الشديد مفضلين العمل بالـ"اليومية"، وفى حالة وجود تفتيش على السيارة المحملة بالعمال يكون بهدف التأكد من رخصة القيادة فقط، متسائلا: كيف يمكن لهؤلاء الأطفال وأسرهم أن يعيشوا إذا توقفوا عن العمل وفقا لتلك القوانين، واختتم حديثه قائلا " لو لقيت شغل تانى فى أى مكان بدل شغلانة مقاول الأنفار حشتغلها ، لكن مين اللى ممكن يشغلنى".
وبالنسبة للعقوبة القانونية للمتسبب فى حادثة "بنى صريد"، أكد المستشار خليل مصطفى رئيس محكمة الأسرة، أنه فى تلك الحالة يتم تطبيق المادة 116 مكرر من قانون الطفل المعدل 126 لسنة 2008 ، والتى تنص على تطبيق ضعف الحد الأدنى من العقوبة المقررة لأى جريمة يتعرض لها شخص بالغ فى حالة وقوعها على طفل، كما يدخل أولياء أمور هؤلاء الأطفال وصاحب العمل الذى قام بتشغيلهم ضمن المادة 96 من نفس القانون التى تنص على أن الطفل يعتبر معرضا للخطر فى حالة تعرض أمنه الشخصى أو سلامته أو حياته أو أخلاقه للخطر ، حيث تتراوح عقوبتها ما بين الحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر أو دفع غرامة تتراوح من ألفين إلى 5 آلاف جنيه.
فى الوقت نفسه أكد محمود البدوى الأمين العام للجمعية المصرية لمساعدة الأحداث، أن أصحاب العمل يفضلون تشغيل الأطفال بسبب انخفاض أجرهم بالمقارنة مع كبار السن، كذلك تشغيل الأطفال يريحهم من الالتزامات المترتبة على تشغيل الكبار وعلى رأسها عدم وجود تعاقدات رقابة تأمينية أو رقابة من جانب مكتب العمل، و أضاف أن هذا النوع من العمل يندرج تحت إطار العمالة الموسمية والتى وضع قانون العمل اشتراطات لها للحفاظ على حقوق وسلامة العامل، إلا أنه لا يوجد أى متابعة فعلية من جانب الجهات المتخصصة بالدولة لتفعيلها.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة