سهام ذهنى

شاهد عيان على مظاهرات التحرير

الأربعاء، 26 يناير 2011 01:31 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الثانية ظهراً فى ميدان مصطفى محمود كأنه السكون الذى يسبق العاصفة.. أعداد مهولة من سيارات الأمن المركزى، بينما حركة الناس والسيارات فى الميدان تكاد تكون معدومة.

فتاة قادمة وحدها من أحد الشوارع تحمل علماً مطوياً، أول الغيث قطرة، وبعدها قطرات: شاب وشابة من شارع آخر، سيدة فى الخمسينات ترتدى معطفاً أنيقاً تقترب قادمة من الناحية الأخرى وتجلس بتلقائية على مقعد قريب من الشباب الواقفين فى صمت.

أفراد من الشباب بدأ كل منهم يتقدم باتجاه الميدان قادمين من الشوارع المحيطة بالميدان، ثم كأن الأرض انشقت وبدأ يخرج منها بشر قادمين من جميع الشوارع المحيطة بالميدان.

الكل جاءوا متفرقين، ثم فى لحظة تعارفوا عبر الهتاف المعتاد: "بالروح بالدم نفديك يا مصر".. مع حالة من التعارف بين الواقفين سبقت الهتاف وواكبته بين هذه الجماعة من المصريين الذين لا توجد بينهم سابق معرفة والذين ذكر غالبيتهم لبعضهم البعض أنهم لا علاقة لهم مباشرة بالسياسة لكنهم جاءوا لأنهم معترضون على العديد من الأوضاع، ثم شاب يتحدث فى التليفون المحمول أخذ يقول للمتظاهرين الذين لم يكن عددهم لحظتها يتجاوز المئات، إن صديق له على التليفون أخبره أن مظاهرة كبرى تسير فى شارع شهاب واقترح الذهاب للانضمام للمتظاهرين تجنباً لرجال الأمن القريبين بشدة من منتصف الميدان، السيدة الجالسة بالمعطف على المقعد صاحت: بل المتظاهرين فى الشوارع الجانبية هم الذين من الأفضل أن يأتوا إلى الميدان المكشوف هنا، فى اللحظة نفسها هلل شاب: جاءنى تليفون أن مظاهرة ضخمة قادمة من "بولاق الدكرور" من ناحية "كوبرى ناهيا" باتجاه شارع جامعة الدول العربية.

القادمين من بولاق الدكرور
وقبل أن يرى أحد مشهد المتظاهرين القادمين من بولاق الدكرور سمع الجميع صوت يدوى بكلمة واحدة متتابعة: "مصر، مصر".. لحظتها لم يعد أحد يقترح أو يتناقش عما يجب أن يفعله المتظاهرون، بل فى لحظة التحمت الجموع بالجموع ودوى الهتاف: "بالروح بالدم نفديك يا مصر"، بينما الأقدام تأخذ المتظاهرين باتجاه شارع البطل أحمد عبد العزيز، كأن بَرَكة البطل الشهيد قد حلّت على الجموع، حيث بالفعل بدا المشهد وكأن الأرض تنشق بالفعل ويخرج منها بشر يلضموا خيوط الحماس ويزداد المتظاهرون عدداً.

فى شرفات المنازل يلوح الواقفون، بينما صيحات المتظاهرين فى الشارع تتصاعد وأيديهم تلوح باتجاه الواقفين فى الشرفات بكلمة واحدة: "انزل، انزل".. تزداد الأعداد، تهدر الهتافات "خبز، حرية، كرامة إنسانية"، و"إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر".

يتتابع التلويح من الشرفات، وأصوات تهتف من أعلى: "الله أكبر، الله أكبر"، سيدة شعرها أبيض تماماً تلقى على المتظاهرين من الشرفة بعلم مصر، تتلقاه الأيدى وسط التصفيق والهتاف، يتبعها مسنون آخرون فى الشرفات بالتلويح للمتظاهرين بالأعلام، ثم إهدائها للجموع وسط صيحات التكبير والتكاتف، وكأن السماء تمطر أعلاماً.. واندلعت الهتافات: "ثورة ثورة حتى النصر".

مشهد الشرفات الممتلئة بالواقفين الملوحين المحتضنين للمتظاهرين يبتعد مع وصول المتظاهرين إلى التقاطع المتسع الذى يوجد فيه "المصل واللقاح" المتكدس عنده سيارات وجنود الأمن المركزى الذين قطعوا الشارع محاولين منع المتظاهرين من مواصلة السير، إنما نظرة واحدة إلى الخلف كانت كفيلة بتوضيح أن المظاهرة بلا نهاية، وأن أوراق اللعبة لم تعد كما كان معتاداً من قبل.. فلقد أمسك الأمن باثنين من المتظاهرين المتصدرين المقدمة، فانطلقت بحدة الصيحات المتتابعة: "سيبوه، سيبوه"، تكتلت الجموع باتجاه رجال الأمن إلى أن تم تحرير الشابين، ليس هذا فقط، بل واخترقت الجموع الحاجز الأمنى الكثيف، وصارت الجموع قريبة جداً من مطلع كوبرى أكتوبر.. بسرعة كانت قوات الأمن تتحرك باتجاه صعود الكوبرى من الناحية المخالفة، وتتحرك فى الوقت ذاته بالمتاريس يسدون بها مطلع الكوبرى من ناحية المتظاهرين، فتحرك المتظاهرون من تحت الكوبرى باتجاه شارع التحرير، مع الهتاف بـ"ارفع صوتك قول للناس، إحنا كرهنا الظلم خلاص"، "حد أدنى للأجور، قبل الشعب ما كله يثور".. وطوال الطريق أخذت تنضم إلى المتظاهرين المزيد من الأعداد، ومن لم ينضموا كانوا يؤدون التحية للمتظاهرين سواء العاملين فى هيئة البريد على ناصية شارع مصدق أو العاملين فى مختلف المحلات التجارية على الصفين الذين كانوا يلوحون للمتظاهرين وهم يهتفون من أماكنهم "الله أكبر"، "ربنا ينصركم"، بوصول المتظاهرين إلى ميدان الدقى حيث محلات الجزارة الضخمة بدأ المتظاهرون يهتفون: "حسنى مبارك، يا حسنى بيه كيلو اللحمة بميت جنيه"، "حقى ألاقى شغل وأعيش، والملاليم ما بتكفيش".. واستمر انضمام المصريين للمتظاهرين وجلجل النشيد الوطنى على لسان الجموع "بلادى بلادى يلادى، لك حبى وفؤادى"، وما أن اقتربت الجموع من جحافل الأمن المركزى المتحركة على الجانب الآخر من الطريق حتى انطلق الشعار: "يا حرية فينك فينك الطوارئ بينى وبينك"، "مش حنسلم مش حنطاطى، إحنا كرهنا الصوت الواطى".

"الله أكبر" أذِّن وكبّر
ثم لوح الكثير من المتظاهرين بالتوقف عن الهتاف، ليس من أجل المزيد من الاقتراب من قوات الأمن المركزى الراجلة والراكبة، إنما لأن صوت آذان العصر قد بدأ يظهر من أحد الجوامع القريبة، لحظتها ارتج شارع التحرير فى الدقى بأروع أذان للعصر، حيث أخذ أحد المتظاهرين ممن يتمتعون بصوت قوى جداً وجميل جداً فى الوقت ذاته، أخذ يردد كلمات الأذان ومن خلفه المتظاهرون يؤذنون معاً فى وقت كانت فيه المظاهرة ليس لها أول ولا آخر.. صوت ارتجت له الجدران وارتجفت القلوب وتفاءلت الأرواح، ولم تتردد الجموع من التكتل بقوة باتجاه الأمن الكثيف الواقف عند مدخل كوبرى الجلاء وواصلوا الزحف مع نسيم النيل الذى رطّب على الأجساد التى كانت تتصبب عرقاً فى عز البرد من شدة المجهود والحماس والمشى الطويل، أما أجمل ما رطّب على القلوب فهم هؤلاء البسطاء الذين يعملون فى مراكب الصيد الصغيرة فى النيل، الذين أخذوا يلوحون ويكبرون باتجاه المتظاهرين، فكانت ملامحهم المصرية الأصيلة جرعة حماس وأمل.

بعد تجاوز نادى القاهرة الرياضى، والتحرك إلى جوار سور الحديقة الممتد، اقترب أحد الشباب وهو محمول فوق الأعناق من مبنى أبيض عبر سور الحديقة وكتب عليه بالاسبراى الأحمر شعار: "يسقط الطغاة" وسط تهليل المتظاهرين الذين صار كوبرى قصر النيل أمامهم، والأمن المركزى عن يسارهم، وعلى صيحة "مصر، مصر" هرولت الصفوف الأولى من المتظاهرين فاتحين الطريق إلى الكوبرى ومن ورائهم بقية المتظاهرين الذين لا أحد يستطيع أن يرى نهايتهم.. وسيدة تقول لشباب إلى جوارها: تقدموا مفيش سجون تتسع لكل الناس، وطالما العدد كبير فإن الجماهير هى الأقوى من كل السجانين.

ولأن أعداداً متزايدة من جنود الأمن المركزى صار لابد للمتظاهرين من أن يمروا إلى جوارهم فقد قالت لبعضهم إحدى المتظاهرات أنهم مجبرون على هذا الوقوف، وأضافت: "ربنا يفكها عليكم وعلينا" فجاء رد الجنود بحماس: "آمين"، ومع المرور إلى جوار غيرهم من الجنود تكرر تبادل المشاعر الطيبة بين الجنود والمتظاهرين، إلى درجة أنه ما أن يلوح أحد المتظاهرين بعلامة النصر ويشير بها باتجاه الجنود المكدسين داخل سيارات الأمن المركزى حتى يبادر الجنود برد التحية بابتسامة ود، والتى يتبعونها أحياناً بالإشارة باتجاه أحد الرتب الكبيرة المتواجدة كى يفهم المتظاهرون أنه لولا الملامة لكنا معكم، مما جعل جموع المتظاهرين يهتفون للجنود: "إحنا إخواتكم وانتوا إخواتنا".

بعد الكوبرى وعلى رصيف جامعة الدول العربية اصطف بتلقائية مجموعة من الشباب وأدوا صلاة العصر جماعة وفرادى دون خلع الأحذية كأنهم جموع الفلسطينيين حين يحول الاحتلال الإسرائيلى بينهم وبين الصلاة فى المسجد الأقصى.. وبالمناسبة فلقد كانت الكوفية الفلسطينية حاضرة بشدة على أكتاف الكثير من الشباب، وكأنهم يشيرون من وراء استخدامها إلى أن الطريق إلى القدس يبدأ من القاهرة ومن تونس ومن قوافل الأحرار فى مختلف الدول العربية.

وصلت أخيراً إلى ميدان التحرير المظاهرة الكبرى القادمة من ميدان مصطفى محمود، وكأنها مدد لمظاهرة أخرى سبقتها إلى ميدان التحرير المتسع المدجج أكثر من أى مكان آخر بقوات الأمن التى استقبلت القادمين فى الرابعة عصراً بكرابيج المياه للتفريق، ليبدأ فى ميدان التحرير فصل آخر، ويتم إسدال الستار على الفصل الأول الذى رصدنا وقائعه عبر الطريق من ميدان مصطفى محمود إلى ميدان التحرير.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة