مرة أخرى أكدت حادثة كنيسة الإسكندرية عشوائية عجيبة فى تصريحات المسئولين، وفتاوى المحللين الإستراتيجيين، وتخبط واسع فى توجيه قرار الاتهام، لكنها وبكل تأكيد أكدت مرة أخرى على وحدة وتلاحم المصريين مسيحيين أو مسلمين ووقوفهم فى خندق واحد ضد الإرهاب وضرب وحدة هذا الشعب الجميل الذى لا يعرف التمييز ولا العنصرية ولا يفرق بين دين ولون وجنس.
كان جليا لكل من يتابع طابور المتحدثين الذين أطلوا علينا من خلال الفضائيات المتعددة، أن ثمة إفلاسًا فكريًا أصاب الجميع، فالوجوه المتحدثة كثيرة، والبرامج الحوارية لا تتوقف على مدار الساعة، والقضية واحدة، ونتيجة هذه الحوارات تنتهى إلى لا شىء، فالجميع يخلطون بين ما حدث كقضية أمنية خطيرة وبين قضايا الدين والسياسة والغضب العارم من قتل أناس أبرياء لم يرتكبوا جريرة، لقد تحولت القضية على أفواه كل الجالسين أمام كاميرا التليفزيون من قضية إرهاب إجرامى إلى منتدى فكرى يدلى فيه الجميع بآراء مختلفة طبقا للأيديولوجية والاتجاه السياسى أو الدينى الذى يعتنقه المتحدث.
إن قضية الكنيسة هى قضية أمنية بحتة تخص جهات ورجال الأمن المصريين وحدهم، وهى تحد جاد لمهارتهم وذكائهم، فهى جريمة خطيرة تستوجب كشفها والإمساك بالمتسببين فيها فورًا لأنها تدخل فى صميم العبث بأمن واستقرار مصر.
لكن ما لا يستطيع أحد تفسيره هو غياب الناطق الإعلامى باسم وزارة الخارجية المصرية، أو عقد مؤتمرات صحفية لجهاز الأمن المصرى للإدلاء ببيانات وتصريحات عن ملابسات الحادث وتطوره وعن المدى الذى وصل إليه رجال الأمن فى الكشف عن الجناة.
لهذا السبب بقيت الساحة الإعلامية والفضائية خالية أمام المشاهدين والمتعطشين لكشف القضية من رجال أمن محترفين، حل محلهم مجموعات من رجال الأمن السابقين أو المتقاعدين ورجالات دين وسياسة وفنانين وفنانات وكلهم راحوا يفتون فى القضية بلا سابق معرفة أمنية أو سياسية أو دينية.
على سبيل المثال يرى رجال الأمن الذين استضافتهم القنوات الفضائية أن التفجير أمام الكنيسة حدث من خارج السيارة، أو حدث من داخلها فى رأى آخر، ويرى كثيرون أنه شخص انتحارى، وترى الحكومة أنه عمل انتحارى وراءه أصابع خارجية، ويرى رجال أحزاب معارضة أنه الموساد، ويرى كثيرون من المسيحيين أنهم من الجماعات الإسلامية المتطرفة وترى القاعدة أنها هى المسئولة ويرى المسلمون والمسيحيون أنهم أخوة فى الوطن والمواطنة وهو الأجمل فى هذه الدراما المحزنة.
واقع الحال يقول إن 14 قرنا مرت على مصر لم تشهد فيها أى اشتباك دينى واحد، عاش فيها الأقباط والمسلمون فى وحدة رائعة وهذا ما يجعل من هذا الاعتداء الأخير محلا للدهشة والتعجب ويطرح ذلك بسؤال عن علاقة ما حدث وما يدور حولنا من قلاقل وعدم استقرار لدول المنطقة، فتقسيم السودان دخل مرحلته الأخيرة غدا، وتهديد اليمن مستمر، وتفكيك العراق وقع وأصبح أمر منهياً، ولبنان يعانى من فتن تكاد تفتك بت.. فهل مصر بعيدة عن هذا الواقع؟ لايمكن الجزم بأن مصر بعيدة عن ذلك فسيناريوهات الضغط وإحداث القلاقل فى مصر معروفة مسبقا وهى لا تخرج عن نطاقين الأول هو نهر النيل ونعرف الضغوط التى تجرى على مصر الآن بشان هذه القضية، والثانى هو ضرب الوحدة الوطنية فى البلاد وهذا ربما هو الذى قصده الرئيس مبارك عندما أشار فى كلمته إلى أن جهات خارجية هى التى تقف وراء هذا الحادث.
هذا الخطر الداهم الخارجى الذى يتربص بمصر، لم ينتبه له أحد، لكن الاحتقان الداخلى راح يتصاعد بين المواطنين متهمين بعضهم البعض، وأخذت نبرة المتظاهرين الأقباط تعلو وهى تبحث عن الاطمئنان، ويحتار المرء فى ظل تلك المواقف الصعبة ويبحث عن أهل الحكمة والعقل فى البلاد، فلا تجد إلا ساحة فارغة من كوادر الفكر والسياسة والإعلام فالصحف القومية التى تشرف عليه الدولة لاتستطيع أن تقرأ أكثر من العناوين فيها، والبرامج الثقافية والسياسية الرصينة غائبة عن الشاشة أما البرامج التافهة والساقطة فهى التى تتصدر المشهد، لذلك تردت ثقافة المواطن وانحدرت وغاب الحس الوطنى وانحصر تفاعل المواطنين مع قضايا الوطن المهمة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة