لقد أثارت الدعوات المتطرفة التى تبناها عدد من المتطرفين داخل المجتمع الأمريكى، لحرق المصحف الشريف، حفيظة الكثيرين ليس فقط داخل مجتمعاتنا العربية بل والعالم ككل، نظرا لما تحمله مثل هذه الدعوة من حقد لعقيدة دينية وهو ما يتنافى كليا وجزئيا مع مبدأ حرية الاعتقاد، والذى تكفله العديد من الدساتير والمواثيق الدولية، والتى يأتى على رأسها العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، والذى يضمن احترام حقوق الأقليات الدينية، ولم تكن الإدانة قاصرة فقط على المستوى الشعبى والدينى وإنما امتدت أيضا إلى المستوى السياسى، فقد لاقت تلك الدعوة إدانات دولية رسمية سواء كانت عربية أو أوروبية أو حتى أمريكية، وكانت من أبرز تلك الادانات ما صدر عن الرئيس الأمريكى ووزيرة خارجيته، وهو الأمر الذى يعكس خطورة مثل هذه الدعوة المتطرفة، والتى قد تؤثر سلبا سواء على المجتمع الأمريكى داخليا أو على المصالح الأمريكية فى الخارج.
إن تلك الدعوة المتطرفة لم تكن وليدة اللحظة، إنما هى امتداد لتراكمات عديدة، بدأت منذ بداية التسعينيات، عندما خرج علينا صموئيل هنتنجتون بنظريته الشهيرة والمعروفة باسم "صراع الحضارات"، والتى رأى فيها هنتنجتون أن الصراع العالمى بين الشرق والغرب، سوف يتحول إلى صراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، ثم جاءت أحداث الحادى عشر من سبتمبر وما تلاها من حروب أمريكية ضد أفغانستان والعراق وما تزامن مع ذلك من هجمات إعلامية شنها الغرب ضد الإسلام، أدت إلى زيادة الاحتقان داخل تلك المجتمعات بين الأقليات المسلمة وباقى عناصر المجتمع، وكذلك احتقان دولى بين الغرب من ناحية، والعالم الاسلامى من ناحية أخرى، وكان هذا الاحتقان دافعا مهما للرئيس أوباما لتحقيق المصالحة بين بلاده وكافة مسلمى العالم، كان منهم مسلمو الولايات المتحدة، والذين عانوا كثيرا خلال السنوات التى تلت هجمات الحادى عشر من سبتمبر، وهى المبادرة التى تنامى على أثرها الإحساس لدينا أننا على أعتاب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإسلام والغرب.
بالرغم من تغير الخطاب الأمريكى تجاه المسلمين منذ أن وصل الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، إلا أن مثل هذه الدعوات المتطرفة تكون سببا فى إحباط الكثيرين، ومن هنا ثار التساؤل حول مدى التغيير الذى أحدثه الرئيس أوباما فى هذا الصدد، وكذلك فإن تزايد الحديث فى الآونة الأخيرة حول مسألة تدنى شعبيته خاصة بعد تأييده المطلق لبناء مركز إسلامى فى منطقة الجرواند زيرو يعنى من وجهة نظر العديد من المحللين أن الأمريكيين لا يقبلون التغيير.
لقد كان قبول الأمريكيين لفكرة التغيير قد بدأ منذ أن اختاروا أوباما ليكون رئيسا للولايات المتحدة، فقد كان اختياره، فى ذاته اعترافا ضمنيا بالحاجة إلى التغيير فى العديد من المحاور منها بالطبع ما هو اقتصادى وسياسى وعسكرى، ولكن لم تقتصر رغبة الأمريكيين فى التغيير على تلك المحاور، إنما إمتدت أيضا إلى مسألة كيفية إعادة الصورة الأمريكية أمام العالم إلى بهائها الذى فقدته إبان عهد بوش، فاختيار أوباما ذو الأصول المسلمة وذو الأصول الإفريقية ليكون رئيسا لأكبر دولة بالعالم كان بمثابة رسالة أبدى فيها المجتمع الأمريكى رغبته فى تقبل كل عناصر المكونه له يغض النظر عن اللون أو الدين أو غير ذلك، وعندما تولى الرئيس أوباما تبنى خطابا مختلفا تجاه العالم الاسلامى، يقوم على احترام الإسلام، ومؤكدا أن الولايات المتحدة ليست فى حرب مع الإسلام إنما فى حرب ضد تنظيمات متطرفة لا علاقة لها بالدين، وهو ما يعنى أن الولايات المتحدة قد تنازلت عن كبرياءها الذى اعتادت عليه فى التعامل مع مثل هذه القضايا، وهو ما يعكس إدراكا أمريكا بأهمية الحفاظ على علاقاتها الودية بالمسلمين سواء فى العالم أو فى الولايات المتحدة.
لقد لاقت دعوة الرئيس أوباما، والتى بدأت منذ انطلاق حملته الانتخابية، قبولا لا بأس به داخل المجتمع الأمريكى، ويظهر ذلك جليا إذا ما قارننا بين المجتمع الأمريكى والمجتمع الأوروبى، ففى الوقت الذى يختار فيه الشعب الأمريكى رجلا من أصول مسلمة ليدخل البيت الأبيض، نجد أن هناك ميلا أوروبيا شديدا تجاه اليمين المتطرف المعادى للإسلام، كذلك هناك اختلاف جذرى بين الخطاب السياسى الأمريكى والذى يدعو إلى التعايش بين كل أطراف المجتمع ويشيد دائما بدور المسلمين كجزء أساسى من المجتمع الأمريكى، أضافوا إليه وأثروه، وبين الخطاب الأوروبى والذى بدا متطرفا بشدة خلال السنوات الماضية سواء من خلال بعض التصريحات لمسئولى الأحزاب اليمينية، والتى جعلت من عدائها للاسلام برنامجا انتخابيا تصل من خلاله إلى سدة الحكم فى العديد من الدول الأوروبية، أو من خلال بعض القرارات التى تسىء للمسلمين، منها حظر المآذن فى سويسرا أو حظر الحجاب فى فرنسا أو غيرها من قرارات تمييزية لاقت إدانة شديدة من قبل العديد من المنظمات الحقوقية.
أعتقد أن الرئيس أوباما قد نجح إلى حد كبير فى أن اتخاذ خطوات إيجابية على الطريق الصحيح فيما يخص مسألة احتواء النظرة المغلوطة للإسلام والمسلمين، وذلك بالرغم من الخلافات التى قد تثور بين الحين والاخر بسبب دعوات قد يطلقها بعض المتطرفين، ولكن لابد أن نضع فى الحسبان عددا من الأمور هى أن المجتمع الأمريكى مثله مثل أى مجتمع أخر يوجد به إلى جانب العديد من المعتدلين، بعضا من المتطرفين ولعل الدليل على ذلك ما نشرته الصحافة عن إدانة قسيسة أمريكية لما دعا إليه المتطرف جونز، وتأكيدها أن مثل هذه الدعوة تخالف كل العقائد الدينية ولا تتفق كذلك مع التعاليم المسيحية، كما أن مسألة التغيير، من ناحية أخرى، لا يمكن أن تتم بصورة مباشرة فلابد أن يكون هناك منهج تدريجى، فالتغيير لا يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها خاصة إذا كان تغييرا لفكر معين تم بناؤه فى عقود طويلة من الزمان.
بيشوى رمزى يكتب: العقلية الأمريكية بين الاعتدال والتطرف
الجمعة، 24 سبتمبر 2010 09:54 م