معصوم مرزوق

الديمقراطية المفترسة

الإثنين، 20 سبتمبر 2010 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أصبحت "الديمقراطية" نشيد الإنشاد على لسان عدد لا بأس به من النخب العربية، حيث أكتشف بعضهم فجأة أن هذا "الشىء" هو سر العجز وخيبة الأمل التى تركب الجمل، وأصبحت الديمقراطية مثل "العلكة" فى أفواه كل من هب ودب، فالفقر هو نتيجة مباشرة لغيبة الديمقراطية، والهزائم هى مصير الشعوب غير الديمقراطية، وتدمير دول لأنها غير ديمقراطية، و.. و.. و..

وقبل التوغل فى هذا الموضوع، أريد أن أؤكد أن الدعوة للديمقراطية هى بلا شك دعوة حق، ولكنه– كما سأوضح– حق يراد به باطلاً، وشاهدنا على ذلك هو مجرد قراءة أولئك الذين يبشرون بالديمقراطية، ومن البديهى أن الرسالة تحمل بعض قسمات حاملها، كما أن الكثير من السم يقبع فى القليل من العسل، ولذلك فأن الترحيب بالديمقراطية لا يجب أن يعمى أعيننا عن حقيقة الصحن الذى تقدم فيه، إذ لطالما هللنا لبقايا أطعمتهم التى لم تورثنا سوى الضعف والمهانة والتخلف، فبسم التمدين والتحضر استعمروا بلادنا وأذلوا شعوبنا عشرات السنين، وحينذاك كان هناك من بين جلدتنا من يمدح رسالتهم السامية، بل ووصل الأمر بأحدهم أن يقول عن العلاقة بين المحتل الإنجليزى ومصر: "أنها زواج كاثوليكى لا انفصال فيه!"، وبسم محاربة الشيوعية ساقوا الشباب المسلم للقتال فى جبال أفغانستان تحت راية الجهاد والإسلام، ووجدنا آنذاك أيضاً من بين جلدتنا من يمتدح التحالف الأمريكى الإسلامى فى مواجهة الإلحاد الشيوعى، وهم نفسهم الذين انقلبوا على فكرة الجهاد فيما بعد، وتقمصوا الخطاب الأمريكى الذى وصم الجهاد والإسلام بالإرهاب، واليوم يقذفوننا بأهمية الإصلاح وتعديل المناهج والديمقراطية، بنفس المنهج الذى أتبعوه وبإستخدام نفس النخب الباهتة.. فأهلاً بالديمقراطية، ولكن أى ديمقراطية؟؟

عندما تهاوت القلاع الشيوعية الحمراء، وانهارت منازل الاشتراكية، قفز أنبياء الرأسمالية والليبرالية فوق كل مكان على الكرة الأرضية يهللون بالنصر الحاسم الذى لا نصر بعده ولا هزيمة، لقد تأكد لكل من كان لديه حول عقلى إفلاس الاشتراكية، وعقم النظريات الشعوبية، وانطلقوا يبشرون بالديمقراطية الليبرالية فى زهو وافتخار..

وكان السيد المبجل "فرانسيس فوكويوما" أول من دق طبول النصر بنظريته " نهاية التاريخ "، حيث أسهب الرجل فى وصف الحتمية التاريخية لإتجاه العالم كله إلى التطبيق الديمقراطى الليبرالى المقترن بحرية الأسواق، ورغم أن إستعاراته لأساسه النظرى تشبعت بفكر هيجل وماركس، إلا أنه لم ير تطور التاريخ من خلال جدلية الصراع، فهذا الصراع من وجهة نظره قد انتهى بانتصار الأقوى والأصلح، و لم يكن سوى صراع للأيديولوجيات، أى تنافس بين أفكار مختلفة فاز فيها الفكر الديمقراطى الليبرالى، وبالتالى فأن العالم أشرف على نهاية التاريخ، أو كما قال: "لقد أصبحنا على مشارف بوابة الجنة الموعودة، ولكننا لم ندخلها بعد"، وانتقد بشدة أولئك المتشائمين من مصير المجتمع الرأسمالى، واعتبر أن نظريته هى "البشارة الطيبة" The good news التى يجب إستقبالها بأكبر قدر من الفرح والتفاؤل.
ورغم سذاجة الطرح وسطحيته، فأنه أثار– ولا يزال يثير– الكثير من اللغط، ولكن لأغراض هذا المقال فإننى سأركز فقط على زاوية واحدة فى محاولة لفهم حكمة "عم جاب الله"، فقد قسم "فوكويوما" العالم إلى من يعيشون فى "ما بعد التاريخ" Post- historic، ومن لا يزالون يعيشون فى التاريخ ( بمفهومه القديم ) Historic، والعالم الأول هو عالم الغرب الذى اعتنق الليبرالية الديمقراطية وإقتصاديات السوق، أما العالم الثانى فهو العالم الثالث بكل مكوناته المعروفة، وبين العالمين هناك عالم فى الوسط، أى قدم فى الجنة وقدم فى النار، والمعيار هو الليبرالية الديمقراطية، ونلاحظ أن مفهوم الرجل للمصطلحات يبدو غامضاً وهو لم يكلف نفسه مشقة تفسير فهمه لها، فعلى سبيل المثال الليبرالية أو الحرية لا تتطابق بالضرورة مع الديمقراطية، فالليبرالية هى الحرية التى لا تطيق أى قيود سواء أكانت حكومية أو قانونية أو حتى أخلاقية ( مثل تحريم حرية زواج المثليين )، بينما الديمقراطية تعنى ضمن ما تعنى نظام قانونى للحياة السياسية فى مجتمع ما، وأدواته هى صندوق الانتخابات والتعددية السياسية، ولما كان أى نظام قانونى هو بالضرورة مجموعة من القواعد والمحددات فأنه يفرض قيوداً على الحرية الفردية.

وقد يكون الرجل قد أردف " الليبرالية الديمقراطية " بمفهوم "اقتصاديات السوق"، أى أن معيار التطبيق الأمثل لديه هو الإشباع المادى من منظور حرية الفرد دون تدخل من الدولة، ولكن أى اختبار بسيط لهذا المعيار يؤكد أن النتيجة لن تكون بالضرورة "الجنة الموعودة"، بل ربما المزيد من تكريس أوضاع الفقر والغنى، لأن حرية بهذا المفهوم تعنى سيادة القوى والثرى، واستعباد الضعيف الفقير، وربما يؤكد ذلك تقسيمه للعالم الذى يعيد للذاكرة على الفور التقسيم القديم بين " الشعوب المتحضرة" و"الشعوب البربرية" الذى كان أساس الظاهرة الاستعمارية، أو التقسيم التالى بين "الدول المتقدمة" و"دول العالم الثالث"، أن الرجل يلقى بأطروحته دون أى نظرة نقدية للأيديولوجية التى يدعى أنها انتصرت، وأنها المصير الحتمى للتاريخ الإنسانى، وذلك قصور نظرى واضح.

ورغم المنهجية الهيجلية فى "نهاية التاريخ"، فإنه من الملاحظ أيضاً تشبعها بالحس الكنسى المسيحى ( مثل إستخدامات الجنة الموعودة، والبشارة الطيبة )، ونظرتها للتاريخ باعتباره تطورا مستقيما إلى نهاية محددة وموجهة، بخلاف النظرة التقليدية للتاريخ باعتباره تطورا جدليا ما بين علاقات متنوعة ومتشابكة لا تفضى بالضرورة إلى نقطة ما، أو يمكن السيطرة عليها وتوجيهها..

ويستعير " فوكويوما " أيضاً من "كانط" فكرة أن الدول الديمقراطية لا تتقاتل ( وهى عبارة كان يرددها كثيراً الرئيس الأمريكى بوش )، على أساس أن الدول الديمقراطية تقودها حكومات منتخبة لا يمكنها إتخاذ قرار الحرب لأن دافع الضرائب الذى يقدم موارده وأولاده فى أتون الحرب لن يقبل بذلك، إلا أن السيد " فوكويوما " يستدرك بأنه وإن كانت الدول الديمقراطية لا تتقاتل فذلك يقتصر عليها وحدها، وإنما يمكن أن تحدث الحرب بين دولة ديمقراطية ودولة غير ديمقراطية، وهو يرى كما يرى النائم أن الدول الديمقراطية ينبغى أن تشكل عصبة فيما بينها كى تنشر الديمقراطية أو تفرضها إذا لزم الأمر على الدول غير الديمقراطية، وبهذا يعم السلام ..

ونلاحظ هنا مرة أخرى الحس الكنسى من زاوية أن الديمقراطية تشبه عودة السيد المسيح ثم إنتشار السلام فى العالم لمدة ألف عام بعد عودته، فالحرب سوف تستمر كظاهرة على حافة نهاية التاريخ، ولكنها ستقتصر فقط على تأديب وتهذيب الدول التى لم تعتنق الديمقراطية وإقتصاديات السوق.. أى أن الديمقراطيات لا تتقاتل وإنما يجب أن تتأمر كى تقاتل الآخرين، والهدف المعلن هو " تطبيق الديمقراطية"، فالديمقراطية هى اسم اللعبة الجديدة، كمدخل لاستمرار هيمنة المتحضرين وتبعية المتخلفين، وللقضاء على الخندق الأخير الذى لا يزال الضعفاء يتحصنون به، خندق الدين والثقافة، خندق الهوية القومية ...

ولكن لم يقل لنا سيادته أى نوع من أنواع الديمقراطية يبشر بها ؟ أو بالأحرى يهدد بها !!، فإذا كانت بما نظن أنها مفهومه لحرية الأسواق، والانعدام الكامل لسيادة الدول الفقيرة، وانتهاك مقدراتها وإلزامها بالتبعية المطلقة، فلا شك أنها تعنى بالضبط ما فهمه المتظاهرون ضد " العولمة "، فهى " عقم للجنس البشرى ووقف لنموه "، ففى ظل هذا التشوه الفاضح فى توزيع الثروة، وهذا الفارق الفادح فى النمو، فأن هذه الوصفة الديمقراطية ليست سوى استعمار فى قناع جديد، وهذا هو بالضبط ما تبشر به جحافل المحافظين الجدد فى أمريكا وإن كان بعبارات أخرى ..

أن الديمقراطية الغربية هى التى ابتلت البشرية بحربين عالميتين مدمرتين خلال القرن الماضى، وكان أطرافها الرئيسيين هى الدول الديمقراطية، ولا يفت فى ذلك أن يقال مثلاً أن " ألمانيا " أو " إيطاليا " كانتا خروجاً على القاعدة لأنهما عكسا نظاميين فاشيين عنصريين، لأن هاتين الدولتين فى النهاية قد خرجا من رحم نفس النظريات والفلسفات التى أفرزت الحضارة الغربية بكل مشتملاتها، والقائمة طويلة قد لا يحتملها هذا المقال، ولكن على سبيل المثال كان أول إستخدام للقنابل الذرية فى التاريخ البشرى بواسطة دولة ديمقراطية، والحروب الاستعمارية كانت صراعاً بين دول ديمقراطية، بل أن مجرد إستثناء الحروب بين الدول الديمقراطية، وإباحة ذلك ضد الدول "غير الديمقراطية" هو نظرة عنصرية فاشية على المستوى الدولى.

وبالمناسبة فإن إسرائيل تعتبر نفسها واحة الديمقراطية، ويراها كذلك أهم حلفائها دون أن يفسر لنا أحد العلاقة بين الوحشية والديمقراطية، بين العنصرية والديمقراطية، بين الرعب النووى والديمقرطية.. إنها نوع من الديمقراطية المفترسة بلا قلب أو خلاق، استحلت ومازالت تستحل ثروات ومقدرات الشعوب تحت شعارات جذابة مختلفة لمدة قرنين من الزمان .

إن الديمقراطية التى تستحق أن ندافع عنها، هى المصنوعة محلياً، مجدولة من تجاربنا وثقافتنا وديننا، مشدودة بإرادتنا المستقلة وتصميمنا على المقاومة دفاعاً عن مقدساتنا وهويتنا، ديمقراطية لا تسحق الفرد ولكنها لا تضحى بالمجتمع من أجل حفنة أفراد، ديمقراطية لا يتسلل من بين ثناياها شياطين الفاشية والتعصب وتجار الموت والسلاح، ديمقراطية تخاطب فى الإنسان أفضل ما فيه، لا تعده بالجنة ثم تلقيه فى الجحيم.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة