قرأت تفاصيل ما يجرى فى غزة وتسطع أنواره فى عواصم العالم.. بالمسرح يقولون كلمتهم.. ومصر المهمومة والمشغولة بالقضية الفلسطينية على مدى أكثر من 60 عاما غائبة عن الوعى.. فوزير ثقافتنا "الفنان" أصبح أكبر فزورة فى المنطقة العربية!! هو مشغول بشىء غامض إسمه المسرح التجريبى.. مشغول بطمس معالم جرائم مساعديه الواحدة تلو الأخرى.. مشغول بالصراخ ليل نهار أنه يفضل مغادرة موقعه، حتى كدنا نتخيل أن واجب علينا تقبيل رأسه لكى يستمر.. وا حسرتاه على جهد مصر العسكرى والسياسى الذى يضيع هدرا عندما نغيب عن استخدام سلاح الثقافة لأجل حقوق الشعب الفلسطينى.
الفنانة الفلسطينية إيمان عون.. المديرة الفنية لمسرح عشتار فى غزة ورام الله.. قررت أنه حان وقت التحرك.. فالقيام بعمل ما، تجاه ما يجرى فى قطاع غزة.. سوف يكسر تلك القوالب التى وضعت وسائل الإعلام القطاع وسكانه داخلها.. بتقديم أبنائه كمجرد أرقام تحصر بها القتلى والجرحى.. متناسية أنهم بشر من لحم ودم ومشاعر.. يملكون أحلاما وآمال.. ويملكون أيضا القدرة على تحقيقها إذا ما واتتهم الظروف.. أو مد لهم البعض بساطا من المساعدة ينثرون عليه تلك الأحلام.. فيشهدها العالم.
أما العمل الذى قررت الفنانة الرقيقة وشركاؤها القيام به، فهو "مونولوجات غزة".. التى ستبحر فى العاشرة من صباح السابع عشر من أكتوبر القادم..
مغادرة شواطئ غزة، متجهة إلى بلدان العالم.. هذه المرة لن تعترضها قوات البحرية الإسرائيلية فى المياه الإقليمية.. ولن تتعرض لإطلاق النيران.. فهى ليست أجساما مشبوهة.. "مونولوجات غزة" ستبحر فى عرض البحر متجهة إلى موانئ العالم لتفرغ حمولتها على خشبات المسارح الدولية..
تقوم بتوصيل مشاعر الشابات والشبان الفلسطينيين.. مشاعر خاصة جدا لم يحظى العالم بسماعها من قبل.. لا فى برامج "التوك شو".. ولا فى البرامج الإخبارية التى تهتم بالمنطقة.. لا سيما قناة "قاعدة العيديد".. مونولوجات عن تجارب ذاتية يومية لهؤلاء الفتية تحت نيران الاحتلال.. قبل وأثناء وبعد الحرب الأخيرة على غزة.. وذاك كان ميلاد الفكرة.
بين الـ14 و الـ 18 عاما من العمر.. اجتمع 33 شابا وفتاة.. جاءوا من جذور اجتماعية وثقافية متعددة.. يجمعهم شىء واحد فقط.. أنهم جميعا ممن ذاقوا نيران الاحتلال ومرارته.. إنخرطوا فى دورة تدريب مسرحى.. عمودها الرئيسى فكرة الأحلام.. الآمال والمخاوف.. كتبوا مونولوجاتهم الشخصية التى لا علاقة لها بالخطب السياسية.. أو وصف الأحداث المروعة.. بالطبع كان صعبا جدا أن يركز من عانى فى هذه العمر على فكرة الحلم فقط.. فكان لا بد من يد تمتد بالمساعدة.. مدرب المجموعة الفنان على أبو ياسين.. والأخصائى النفسى ناضل شعث.. فالتحدث عن التجارب الصادمة القاسية التى تعرضوا لها.. والتى تتعدى القدرة الطبيعية على الاحتمال.. هى أولى خطوات بداية الحلم.. وهو أمر أجمع عليه خبراء الصحة النفسية فى منظمة الصحة العالمية.. العنف والحصار الذى يتعرض له البالغين والصغار، لاسيما فى قطاع غزة.. يحتاج مجهودا هائلا لجعلهم قادرون على التعامل مع تجاربهم وإعادة بناء حياتهم..
مسرح عشتار وجد شركاء له حول العالم.. للقيام بهذه المغامرة الثقافية والإنسانية، كما أطلقت عليها "إيمان عون",.. ثم جمع هذه المونولوجات وقام بترجمتها إلى اللغات: الانجليزية والفرنسية.. ووزعها على هؤلاء الشركاء.. كل منهم يقوم بتدريب مجموعة فى وطنه من نفس أعمار فتية المسرح الفلسطينى.. يقومون بإلقاء هذه المونولوجات كل بلغته فى نفس اليوم.. 17 أكتوبر.. بعدها تقوم كل مؤسسة شريكة حول العالم بترشيح أحد مشاركيها الشباب للانضمام إلى فريق مسرح عشتار فى رحلته التى سيقوم بها إلى نيويورك لعرض هذه المونولوجات فى الأمم المتحدة كل بلغته.. فى يوم التضامن مع الشعب الفلسطينى فى التاسع والعشرين من نوفمبر القادم.
بقيت كلمتان.. الأولى: أن شركاء مسرح عشتار يغطون فلسطين تقريبا.. فى غزة ورام الله وعكا والقدس وحيفا والخليل وبيت جالا وجنين.. وفى سوريا والأردن واليمن وأبو ظبى وتونس وموريتانيا.. وفى بريطانيا واليونان والنرويج والسويد وهولندا وإيطاليا والبوسنة وقبرص والمجروالنمسا وألمانيا.. وفى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وترينيداد.. واستراليا.. وفى زيمبابوى.
أما الكلمة الثانية.. فهى سؤال أتوجه به للوزير "الفنان" وزير الثقافة.. لماذا غابت مصر عن فعالية "تجريبية" بهذا الرقى والوعى والأهمية؟!.. واستنكار أتوجه به لكل الورش الخاصة والفنانين الذين يحرصون على الظهور فى احتفاليات مشابهة ملتحفين الكوفية الفلسطينية الشهيرة.. مهرولين إلى ميناء رفح الحدودى البرى.. متمترسين أمام عدسات الفضائيات المختلفة.. مصطحبين أجوال الدقيق وطرود الأدوية العابرة إلى داخل القطاع.. مؤدين دورا آخر غير المفترض بهم القيام به.. الفنان يقول كلمته على خشبة المسرح.. أمام كاميرات السينما أو التليفزيون.. عندما يخلع عباءة الفن الفضفاضة.. ويرتدى روب المناضلين.. يسدل بيده الستار على نفسه كاتبا سطر "النهاية"!!