حينما يدين المثقفون والنخبة من يعتبرونهم الجهلاء بالطائفية، فالمفترض أن أهل الرأى من مفكرين وإعلاميين هم أبعد الناس عن الخوض فى الفتنة الطائفية، أو تحويل القضايا العادية إلى حرائق دينية تأكل الأخضر واليابس، لكن المصيبة - الآن - تأتى من صناع الرأى وصاغة المشاعر والوعى، فالصحف والمواقع الإخبارية على النت وبعض القنوات الفضائية تخوض فى الوحل الطائفى بتلذذ غريب ومريب، ومعها يتحول القارئ وصاحب التعليق إلى داعية أو مضطهد، يبث آراءه الساذجة بلا ضابط أو رابط، فكلنا تابع قضية (الهاكرز) وما حدث بموقع اليوم السابع، والمسألة باختصار شديد أن الموقع نشر عناوين الحلقة الأولى من رواية تتخذ من الإسلام والنبى وصحابته وأهله موضوعاً لها، واعتبر البعض أن هذه العناوين مثيرة ومسيئة، وبدأت حملة ضد الموقع باعتباره يخدم أعداء الإسلام ولم تأخذ اليوم السابع العزة بالإثم، أوقفوا النشر واعتذروا للقارئ، وانتهت القضية، لكن يبقى حجم ما أثارته القضية فى نوافذ إعلامية كثيرة، كلها - وبلا استثناء - تعاملت مع الموضوع بشكل طائفى، بداية من الشاب المسكين الذى اخترق الموقع إلى سيل لا ينتهى من تعليقات القراء، كلها يصب الزيت على نيران طائفية، وخرج أحد المشايخ الكبار يكيل المديح لليوم السابع فيقول إن أغلبية محرريها من المسلمين!! أى أن الموقع لو كان فيه بالصدفة عدد كبير من غير المسلمين، فهو يستحق الذم والتخوين، ولا أريد استعراض تفاصيل أخرى داخل هذا المشهد لأننى أعتبر أن الكتابة عن الطائفية نوع من الانغماس فيها.
لكن لابد من الإشارة إلى موقع (المصريون) الذى يبذل كل جهده فى تحويل المشكلات العادية إلى قضايا طائفية، أقول ذلك على الرغم من تقديرى للكثيرين من كتاب الموقع وصداقتى الوطيدة بالزميل جمال سلطان، فقد رأيت صباح الخميس الماضى الخبر الرئيسى فى الموقع يتحدث عن إلغاء محافظ الفيوم تخصيص 500 فدان لشركة أوراسكوم بجوار بحيرة قارون بسبب ما أثارته الشركة من مشكلات طائفية، ناتجة عن بناء قباب على الطراز القبطى، بالإضافة إلى إعطاء الأولوية فى حجز الشقق للإخوة المسيحيين، مما أثار المشاعر الدينية عند المسلمين، الذين أرسلوا شكاوى للسيد المحافظ وللمجلس الشعبى المحلى ولجهات أخرى سيادية، حتى انتهى الأمر بإلغاء التخصيص، وعلى الفور بادرت بالاتصال بالدكتور جلال السعيد محافظ الفيوم أسأله عن صحة الخبر، فنفى سيادته حدوث ذلك جملة وتفصيلاً، وأنه لا وجود لأية شكاوى عندى أو لدى المجلس الشعبى المحلى، والمشروع مازال قائماً، ولا توجد أية مشكلات.. عند هذا الحد بلغت درجة الاندهاش عندى مداها، فالخبر مختلق من جذوره، خاصة وقد رأيت المبانى بنفسى ولا وجود لما يمكن اعتباره تصميمات قبطية، وبافتراض وجودها فهى جزء من النسيج الحضارى والجمالى الذى يمتلكه جميع المصريين، فالمصريون هم الذين اخترعوا القباب والمآذن وقباب المساجد تشبه قباب الكنائس من حيث التشكيل الجمالى والمعمارى وكذلك تتشابه المآذن مع أبراج الكنائس كوحدات معمارية رأسية، لكن الطين يزيد بلة بعد اختراع خبر طائفى مكذوب تماماً، لأن تعليقات القراء تمثل كارثة أخري، فالحشد الطائفي، وتوزيع الاتهامات والتجريح يصيب الأمن الاجتماعى والنفسى لجميع المصريين، ويدمر مناعتهم الثقافية والحضارية، خاصة أن المشرحة (مش ناقصة قتلي) كما يقال، ففى العامين الماضيين من يناير 2008 حتى يناير 2010 حدثت 53 حالة عنف طائفى فى 17 محافظة مصرية، والسؤال من الخاسر؟ هل يخسر طرف وينتصر الآخر؟ بالتأكيد لا، لأن مصر ليست حاصل جمع أجزائها، فهى أكبر من مكوناتها، وطبقات الجيولوجيا التى شكلت هويتها الحضارية والثقافية، تتجاوز فكرة العناصر إلى فكرة الانصهار فى البوتقة الواحدة، ومن الصعب أن تفصل داخل تدفق المادة المنصهرة بين مادة وأخرى.