د. بليغ حمدى

صاحب الخلق العظيم

الخميس، 05 أغسطس 2010 08:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت فى سطور سابقة قد أشرت إلى مهاد سردى يجسد بعضاً من حياة النبى ( صلى الله عليه وسلم ) حينما كان صغيراً، تلك الحياة الأولية التى أهلته لأن يكون صاحب خلق عظيم وشريف، وكانت لهذه السطور السابقة فى مقالى المعنون بـ " وإنك لعلى خلق عظيم" أهمية وضرورة؛ حيث إن صاحب الرسالة بأخلاقه ومكارمه ومناقبه المحمودة لم تنشأ من فراغ، ولم تأت من عبث وصدفة، بل نتاج إعداد وتخطيط وتهيأة إلهية مقدرة. وأن الصفات والخصائص النفسية والاجتماعية التى عرفت عن نبينا الكريم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت نتيجة طبيعية لما تعرض له النبى وهو صغير.

ودونما شك أن من أفضل الخصائص والسمات الأخلاقية التى ينبغى أن يتحلى بها المؤمن هو الصبر على الشدائد، وهذا ما عرف عن هذا النبى الخاتم ( صلى الله عليه وسلم )، من أشق الأمور على الإنسان أن ينصح أخاً له، أو يرشده ويبلغه بكلمة ما، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بل يجد المرء نفسه متحرجاً فى أمره هذا، ولعله يتردد، ويتريث كثيراً قبل أن يقدم على نصح وإرشاد ذويه وأهله.

إن الدرب ولا ريب وعر، والمهمة بعد السياق السابق شاقة، ونجزم بأنها تبدو مستحيلة، فما بالكم برجل واحد أمر من فوق سبع سماوات أن يدعو الناس كافة ويؤمر بنصحهم وإرشادهم، ليس هذا فقط، بل يزداد الأمر صعوبة ومشقة، إنه يدعو، ويبشر، وينهى، ويحذر، ويفصل ما أجمل، وينذر من يعصى.

إنك لو فكرت بمنطق هذا العصر، أن تنصح مثلاً زميلاً لك بالعمل من أن يحرص على الصلاة فى أوقاتها، فقد يعتريك الشك بأنه سيدخل معك فى مشادة كلامية . أو إذا أردت أن تنصح زوجتك بخفض صوتها عند الحديث فى الهاتف مثلاً، فسوف تفكر ألف مرة قبل عرض النصيحة.

أما إذا كنت صاحب اقتراح يتعلق بشأن تطوير المؤسسة التى تعمل بها ، ووجب عليك لتنفيذ ذلك الاقتراح أن تذهب لرئيسك مباشرة، مع معرفتك السابقة بأن شخص يرفض أى إصلاح أو تطوير أو تجديد، فربما ساعتها سيقتلك التفكير فى عرض الأمر، حتى تتخلى عنه تماماً.

وما أكثر قراءتنا وترديدنا لسورة المدثر، نحفظها، ونسعى لأن يحفظها أولادنا وأهلنا وتلاميذنا، وهذا بالضرورة أمر طيب وجميل ومحبب، لكن الأجمل والأطيب والأمتع حقاً أن نعى ما جاء فى أول السورة، يقول تعالى : ( يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ) .

فالأوامر التى جاءت فى صدر السورة الكريمة تتسم بالمباشرة، والوضوح ، فالأوامر الإلهية تمثلت فى القيام بالإنذار ، وطهارة الثياب، والتكبير لله، وغاية عدم الاستكثار بالمنة.ونأتى للآية الأخيرة البليغة الجامعة المانعة المنبئة بالمستقبل، وهى ما سيلقاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المشركين، وما سيجده على حد وصف المؤرخين للسيرة النبوية من أذى المعاندين من المخالفة والاستهزاء والسخرية إلى الجد والاجتهاد فى قتله، وقتل أصحابه، وإبادة كل من التف حوله من المؤمنين.

ولك أن تتصور بأن رب العزة يأمر نبيه وصفيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يصبر ، وهو سبحانه وتعالى الكافى والقادر لرفع الأذى عنه، ولك أن تتخيل قدر الحمل الثقيل الذى أدركه رسول الله منذ البداية أنه سيقدم على مهمة ثقيلة حقاً، وجهاد طويل شاق لإعلاء كلمة التوحيد إلى يوم الدين.

ولعل الآية الآمرة جاءت فى سورة لها دلالة كبيرة، حيث سورة الشعراء التى تحدثت عن قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته إلى فراره مع بنى إسرائيل، وإغراق آل فرعون ومن معه، وقد اشتملت السورة الكريمة على مراحل دعوة موسى لقومه، وما وجده منهم من تعنت وعناد وخصومة. كما تضمنت السورة تكذيب المشركين للرسل؛ ليعلم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه ما سيحدث لهم مستقبلاً ولكى يأخذوا بالأسباب، ويتهيأوا لها.

ولا أظن أن رجلاً فى عصرنا هذا أو فى العصور المنصرمة يستطيع أن يقف أمام جمع، كالجمع الذى خطب فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، بكل شجاعة وحزم وبأس وقوة، هذا ما حدث بالضبط يوم الصفا حين دعا النبى قريش وأهل مكة إلى التوحيد وعبادة القهار المقتدر، والإيمان باليوم الآخر ودخول الإسلام.

وما إن بلغ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بما أمر به من السماء حتى انفجرت مكة بالغضب، غضب فى كل مكان وبقعة، واختلفوا وتمايزوا فى ابتداع أساليب وألوان شتى لمواجهة دعوة محمد وإلحاق الأذى به وبأهله. ولعل هذا التباين والاختلاف فى صناعة العداء نتيجة الدهشة والاستغراب حينما تلقوا الإنذار .
وما أقسى السخرية والاستهزاء من الأقربين والعشيرة، فكم كانت محاولات المشركين المستدامة التى كانت هدفها توهين قوى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) المعنوية، وخذله فى أصحابه، ويستحضرنى حديث رسول الله وسيد خلقه ( صلى الله عليه وسلم ) حين سأله سعد بن أبى وقاص ( رضى الله عنه ) فقال : يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان فى دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابتلى حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة.

والجانب المعنوى فى هذا الأمر هو أشد وأعنف من جانبه المادى، وما بالكم بهؤلاء السفهاء الذين تضاحكوا وسخروا وطعنوا فى أكرم مخلوق على وجه البسيطة، وما أقوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأخلاقه فى الصبر على الشدائد، ولنا فى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسوة حسنة فى الصبر على الضراء، وفى البأساء ، وحين البأس . ومن حكمة الله ( تبارك وتعالى ) أن جاء الحديث فى القرآن الكريم عن الصبر على الحق والاستشهاد فى سبيل الله بعد ذكر جانب الأسوة الحسنة ، يقول تعالى ( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً . ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً . من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) .

وكان السفهاء من قريش يسخرون من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويتهمونه بأنه رجل مسحور ، وبأنه ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، وبأنه كاهن يأتيه الشيطان ، هذا بالإضافة إلى نظرة الازدراء والنقمة التى كانوا ينظرون بها إليه ، كما قال الله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون).

ويصف الله تعالى فى كتابه العزيز كل افتراءات مشركى مكة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول تعالى : ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) . والذى لا يدع مجالاً للشك أن هذه السخرية قد كانت تضايق رسولنا الكريم كما قال الله تعالى : ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ) ، ولم يتركه الله بل قدم له الحل والعلاج القرآنى السريع بقوله تعالى : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) .

ويكفيك أيها المسلم وأنت تحتفل بقدوم شهر رمضان المعظم هذه الأيام أن تعى السخرية والاستهزاء والتهديد بالقتل والتخطيط للقتل، والمحاربة العلنية التى واجهها النبى فى دعوته وإعلائه لكلمة الحق ، فظفرت أنت بالدين وأصبحت فى نعمة علك تحمد الله عليها. وفى الحديث بقية إن شاء الله.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة