فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى تعرفت عليه فى واحد من أكبر مساجد شبرا الخيمة، كان يخطب الجمعة ثم يعقبها بحديث قصير يتحدث فيه عن مشكلات المنطقة الاجتماعية.
كانت عيادته الصغيرة اللصيقة بالمسجد دائما مكتظة بالمرضى وذويهم، وآخرون جاءوا إليه بحثا عن دواء لمشكلات غير طبية.
فى عيادته كان يستقبل مرضاه من كافة الطبقات الاجتماعية، من أغنياء المنطقة حتى أفقر فقرائها، رسم الكشف فى عيادته فى متناول الجميع وللفقراء سعر خاص جدا يتضمن الكشف المجانى أحيانا وتوفير بعض الدواء أو توصية الصيدليات الكبيرة بخفض سعر الدواء ما أمكن.
توطدت علاقتى به بحكم الزمالة فى المهنة رغم فارق السن والخبرة، فأنا خريج جديد وهو إخصائى له شهرته وداعية له مكانته واسمه يعرفه الجميع من رواد المساجد إلى رواد المقاهى، فى الأحياء القديمة والجديدة، فى العزب والكفور والمناطق العشوائية، فى بيجام ومنهور شبرا وشبرا المحطة وعزبة عثمان وأم بيومى ومنطى ومساكن حجازى و15 مايو، فى مدينتى التعاون والسعادة وشارع ناصر والمنشية الجديدة وبهتيم.
انتخب عضوا فى نقابة الأطباء وعمل لصالح أبناء المهنة، ساهم فى حفلات الأعراس وعقد قران المئات من الشباب، بسيطا كان وعميقا رغم بساطته، قوى البنية والعزيمة والشكيمة لكنه ضعيف أمام أرملة تأتيه طلبا للمساعدة، أو طالب لا يجد مصروفات دراسته أو شيخ هرم يريد أن يحظى بالحج أو العمرة قبل أن يقضى إليه أجله.
سبقت أخلاقه سمعته واسمه، كان حسن المعشر، قليل الاهتمام بزيه وشكله وكنت كلما نصحت له يقول: يا عم حمزة كله ده مش مهم، فيضحك وأضحك معه من القلب ضحكة تزيل غبار المعاناة وقسوة الواقع الاجتماعى من حولنا.
تعلمت منه كيف أكون فى خدمة الناس لأن لله عبادا اختصهم بقضاء حوائج الناس، لذا كان يخرج من الاعتكاف ليعالج مريضا أو يمشى فى قضاء حاجة من جاءه مستغيثا.
كنت ألتقيه بعد أنتهى من عيادتى فى منتصف الليل فيأخذنى لنزور مريضا فى بيت يوشك على الانهيار حتى أننا ذات مرة زرنا مريضا يسكن فى أعلى سطح بيت عبر سلم خشبى يكاد يسقط بنا، لحظتها شاهدت بأم عينى كيف كاد المريض العجوز أن يقفز فرحا برؤيته واهتمامه ودعوات أهل المريض لا تنقطع.
رغم علاقاته المتشعبة ورغم أنه كان بإمكانه الثراء المشروع من عيادته لو رفع سعر الكشف، كان يسير بسيارته البيجو 505 موديل السبعينيات حتى آخر التسعينيات وهى سيارة عرف بها كما عرفت به، لأنها تكاد تكون الوحيدة من نوعها فى المنطقة.
لم يدع إلى عنف قط والتزم سلوكا وسطيا قاوم به التشدد الدينى وتصدى لأنصاره وقياداته، رغم انتشار ذلك التيار آنذاك فى شبرا الخيمة، حتى أن البعض اتهمه فى دينه وشكك آخرون فى عقيدته لا لشىء إلا لأنه كان يرى أن الدعوة إلى الله لا تكون إلا بالحسنى بعيدا عن العنف والثورة والتكفير.
دخل الانتخابات وفاز فوزا ساحقا وحيل بينه وبين المقعد بعد أن أعلن فى الإذاعة المصرية أنه من الفائزين ورأت أجهزة الدولة غير رأى الناس فخرجت المظاهرات انتصارا له فأعادهم إلى بيوتهم متمنيا عليهم أن يلتزموا السلم والأمن، استجاب لطلب مدير الأمن الذى شعر بخطورة الموقف، التزم بالحفاظ على الأمن ولكن وبدلا من مكافأته لم يغفروا له أن الناس احتشدت من أجله فاعتقلوه وعسكريا حاكموه، قضى فى سجنه ثلاث سنوات وأفرج عنه قبل إتمام مدة العقوبة بأشهر قليلة نظرا لمرضه.
أصيب بفشل كبدى وقرر الأطباء له إجراء جراحة نقل كبد ولم يكن عنده ما يكفى لذلك فتطوع المحبون وسألته لماذا يرفض الجراحة قال: ولماذا أنا دون غيرى أجرى جراحة كلفتها نصف مليون جنيه بينما الملايين مثلى لا يجدون العلاج..!!
لم يمهله القدر، مات فى المستشفى وخرجت شبرا الخيمة عن بكرة أبيها تودعه حتى أن سيارات الميكروباص حولت مسيرتها لتحمل مشيعينه من شبرا الخيمة إلى بلدته فى الشرقية.
كان وداعا مهيبا، يشهد على قيمة الرجل وقامته، لم تشهد شبرا الخيمة أو غيرها فيما اعتقد جنازة بهذا الحجم لرجل بسيط ينتمى إلى شعبه ويحب وطنه ويعمل من أجل أبنائه.
كلما مررت بشوارع شبرا الخيمة أتذكر الدكتور حسين الدرج وأفتقده، فى هذا الشارع مشينا وفى هذا المستوصف الشعبى عملنا، فى هذا المسجد كان يخطب الجمعة، وهنا كان يلقى درس الأحد وفى هذه الساحة كان ينظم صلاة العيد التى جعلت من شارع (25) أشهر شوارع شبرا الخيمة على الإطلاق حتى أن البعض كان يربط المسجد والشارع والحى باسمه عليه رحمة الله.
ما زلت أفتقدك يا معلمى وفى ذكرى وفاتك لك منى الدعوات وطيب المقام فى جنات ونهر إن شاء الله.
آخر السطر
جسد الدكتور حسين الدرج نموذجًا فريدا للعطاء دون انتظار الأجر أو التقدير فنال الاثنين معاً
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة