بين مشاعر الحنين وتمنى العيش والجوار والرؤية، وبين محبة وشوق وحنين وإخلاص وشعور بالعظمة وإحساس بعبقرية الشخصية، استقرت دوافع الاهتمام بسيرة الرسول الأكرم " ص" حسبما أننا من المشتاقين إليه محبة وشوقاً وغراماً وشفاعة. ومن الدوافع التى تدفع كثيرا من الباحثين إلى كتابة السيرة النبوية أن هذه السيرة وهذه الحياة مثالية فى كل جوانبها على الإطلاق، ففيها القدوة الحسنة ، والمثل الأعلى، يقول الله تعالى )لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة(.
كما أنه الأعظم والأبلغ تأثيراً فى حياة التاريخ البشرى، فلقد تحقق له النجاح الكامل على المستويين الدينى والدنيوى، وليس موضوعنا الآن أن نذكر كتابات المستشرقين وعلماء ما بعد البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادى أمثال وليام ماكنيل وجون ماسرمان، ومايكل هارت، وغيرهم ممن أسردوا ضرورة الحديث عن سيرة الرسول "ص" الذى أثر فى الدنيا والتاريخ والأخلاق والبشرية جميعها.
(وإنك لعلى خلق عظيم) هكذا تحدث الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات عن رجل يسكن الأرض ، سيد الخلق أجمعين محمد (صلى الله عليه وسلم) ، مخبراً عن أخلاقه الكريمة الراقية ، ويأتى شهر ربيع الأول من كل عام ليذكرنا بمولد الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) . والحديث عن البدايات حديث ذو شجن وسحر خاص ، فلقد ولد النبى (صلى الله عليه وسلم ) فى فجر الاثنين لاثنتى عشرة ليلة مضت من ربيع الأول الموافق العشرين من شهر أغسطس سنة 750 ميلادية ، ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو ، وذلك فى المكان المعروف بسوق الليل فى الدار التى صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفى أخى الحجاج بن يوسف.
وقد أدخل ذلك البيت فى الدار حتى أخرجته الخيزران أم الهادى والرشيد فجعلته مسجداً يصلى فيه الناس وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبى طالب. وتذكر كتب التاريخ المعروفة أنه (عليه الصلاة والسلام ) نزل على يد الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، فهى قابلته ، رافعاً بصره إلى السماء ، وكانت أمه (عليه الصلاة والسلام ) تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده النساء الحوامل من ثقل وألم.
ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يرعى عباده المصطفين الأخيار ، وينظر إليهم نظرة عطف ومودة ورحمة نقف عند واقعة جليلة نعتز بها نحن المسلمين فى شتى بقاع الأرض ، ونحرص أن نسردها لصغارنا وكبارنا على السواء، وهى واقعة مرضعة النبى ( صلى الله عليه وسلم ) حليمة بنت أبى زؤيب السعدية وتكنى أم كبشة.
وتحدث حليمة السعدية أنها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى، وابن لها صغير ترضعه فى نسوة من بنى سعد بن بكر تلتمس الرضعاء. وتروى حليمة بنفسها أنها حين قدمت مكة تلتمس الصغار لرضاعتهم فما من امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فتأباه، إذا قيل لها : إنه يتيم، وذلك إنما كانت النساء المرضعات ترجون المعروف من أبى الصبي، فكانت النسوة تقول : يتيم !! وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكره ذلك.
وهكذا كان حال الطفل الرضيع محمد (صلى الله عليه وسلم ) ، وما أشق هذه الحال، تأبى المرضعات أن تأخذه ، كونه يتيماً ، واليتم كما نعلم ونعى ونفطن ضعف ومذلة وقصور حيلة ، ولكن يؤكد علماء نفس الطفل المعاصرين أن تعرض الطفل لمثل هذه الأحوال من شأنها أن تجعله أكثر صلابة وتحملاً لما يتعرض له من محن فى المستقبل. وما أشبه الليلة بالبارحة فى المقدمات والنتائج، إن حال تقلب النبى (صلى الله عليه وسلم ) بين العرض والرفض أشبه بحاله حينما عرض نفسه على القبائل بالطائف.
ونجد الله دائماً مع حبيبه محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فنجد حليمة السعدية تقول فى بلاغة موجزة لزوجها الحارث: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعاً ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلأخذنه، فقال زوجها : لا عليك أن تفعلى ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وهكذا كان ، بركة فى الناقة الشارفة المسنة، والمطعم والمشرب والحال للطفل والمرضعة وابنها وزوجها حتى قال لزوجته : أصبنا نسمة مباركة ، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن.
وما يهمنا فى هذه الواقعة أن يدرك الناظر لها كم هو أسعد حالاً ومقاماً هو وأولاده وذويه، ولعله يدرك النعمة التى من الله عليه بها، وهى نعمة الأمومة والرضاعة من صدر أمه، فهذا هو حبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) تقول عنه مرضعته مقالتها تلك : وإنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعاً، وكيف بحال أبنائك وأنت تطمئن عليهم كل مساء ، وترى ابتسامة أمهم وهى تحتضن صغارها، وكيف تنظر لحال صغارك وأنت تقرأ قول حليمة : فما من امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فتأباه ، وكلمة تأبى تعنى الرفض الشديد ، ألا يجعلنا ما سيق ذكره أن نزداد عشقاً وولعاً ومحبة برسولها الجميل (صلى الله عليه وسلم) .
وكان هذا ـ أى ما سبق ذكره ـ توجيهاً لأولئك الفئة التى تجعل من الاحتفال بذكرى ميلاد المصطفى (صلى الله عليه وسلم ) بدعة وشركاً واستحداثاً ممقوتاً فى الدين الحنيف، فليتنا نحتفل بمولده كل يوم وليلة ، وإذا كنا نسعد ونحتفل ونبتهج بمولد أولادنا رغم أنهم يعيشون ويموتون ولم يقدموا شيئاً للإنسانية يذكر ، فما بالكم برجل وحد أمة، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وتعد حادثة شق الصدر للرسول أثناء وجوده بمضارب بنى سعد من إرهاصات النبوة الأولى، ونذير خير لما سيحدث لهذا الصبى الصغير من اصطفاء واختيار له. وعود على بدء لحليمة السعدية التى تخبرنا عن القصة كاملة.
فتقول : عندما رجعنا بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه إذا أتانا أخوه يشتد، فقال لى ولأبيه ذاك أخى القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه، فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائماً ممتقعا وجهه، فالتزمته والتزمه زوجى ، فقلنا له : مالك يا بنى ؟ ، قال : جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى وشقا بطنى فالتمسا فيه شيئاً لا أدرى ما هو ، فقالت حليمة : فرجعنا به إلى خبائنا، وقال أبوه الحارث : يا حليمة ، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به.
والناظر لسياق الحدث السابق يتبين أن حليمة وزوجها قد أحبا الصغير حباً جماً ، ويظهر ذلك بوضوح فى قولها " أبوه " مرتين، وهذا خير دليل على تعلقهما بهذا الصغير. والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرنا عن حادثة شق الصدر وما تحملها من دلائل ذات معنى ، حينما سأله نفر من أصحابه فقالوا له: يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك ، قال : " نعم ، أنا دعوة أبى إبراهيم ، وبشارة أخى عيسى، ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت فى بنى سعد، فبينا أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما إذ أتانى رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجاً فأخذانى فشقا بطنى ، واستخرجا قلبى فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبى وبطنى بذلك الثلج حتى أنقياه" .
وكعادة المستشرقين من أعداء الإسلام وخصومه ، يتناولون هذه الحادثة بمنظور أكثر غرابة، فالمستشرق نيكولسون فى كتابه ( تاريخ أدب العرب ) ، ومير فى كتابه ( حياة محمد ) وغيرهما يرون أن هذه نوبة صرعية ، وهذا بالطبع مردود عليه ، فلم تشاهد علامات الصرع على حبيبنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) طول عمره، وإذا كان الصرع ـ كحالة مرضية ـ يصيب صاحبه بحالات عصبية موتورة وقلق وتوتر دائم ، فكيف هذا والنبى ( صلى الله عليه وسلم ) هو النبى ، والزوج ، والقائد ، والمصلح ، والأب ، والمربى ، والمرشد ، والنذير ، وكل هذه الأدوار قام بها النبى ( صلى الله عليه وسلم ) فى وعى وجلد شديدين.
إن المستشرقين ، يبذلون جهداً بشرياً مقصوراً غير عادى للنيل من النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأظن أنى قد وفقت اللفظ فى " بشرياً " لأن قدرة الله وقوته أبقى وأعز وأجل. كل هذا ولابد أن نعى حال هذا الصبى ، الذى يتعرض لمثل هذه المواقف العصيبة ، وغيرها مما ورد فى كتب السيرة النبوية ، مثل وفاة أمه صغيراً ، كل هذا أيضاً من شأنه أن يقوى ساعد الصبى على ما ستخبره الأيام اللاحقة من عوارض، وهو ما أشار إليه جده عبد المطلب بقوله : دعوا ابنى فوالله إن له شأنا" .
والحكمة من هذا الشق هو الزيادة فى إكرامه وإمداده ( صلى الله عليه وسلم ) وتقويته وإعداده، ليتلقى ما سيوحى إليه بقلب قوى سليم متين فى أكمل الأحوال. وشق الصدر لأنه حادث جلل غيبى يلزمنا التصديق به أولاً ، والوقوف عنده طويلاً بالدرس والتحليل لاستنباط الفوائد والحكم منه، فشق الصدر من جنس ما ابتلى الله به الذبيح وصبر عليه ، بل هذا أشق وأجل ، لأن تلك معاريض وهذه حقيقة، وما أحوجنا هذه الأيام أن تحدث لنا حادثة ولو معنوية لشق صدونا المعتمة ، إن حظ الشيطان منا عظيم فى الآونة الأخيرة، فى ظل الفتن والمغريات التى تنخر بنا ليل نهار، ولا راد لها سوى عصمة من الله.
وتتجلى الحكمة أيضاً من شق الصدر فى القدرة على أن يمتلأ قلب الصبى الصغير إيمانا وحكمة وزيادة فى قوة اليقين ، لأنه أعطى برؤيته شق صدره وعدم تأثره بذلك ما آمن معه من جميع المخاوف العادية، ولذلك كان رسولنا ( صلى الله عليه وسلم) أشجع الناس حالاً ومقاماً ،ولذلك وصف النبى ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله تعالى : ( ما زاغ البصر وما طغى ) .
* أكاديمى مصرى .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة