أزمة القضاة والمحامين هى مجرد رأس جبل الجليد الطافى فوق السطح، والذى يخفى تحته كارثة احتقان شعبى بين فئات كثيرة فى المجتمع، يسعى كل منها للتمايز عن الآخرين فى ظل غياب قيمة العدالة الاجتماعية وتراجع مبدأ تكافؤ الفرص أمام طوفان جماعات الضغط والمصالح التى تفتت مصر إلى أكثر من دويلة داخل الدولة، لكل منها شعبها وقيمها ونسق حياتها وولاءاتها المتعارضة والمتناحرة.. ولكل جماعة من هذه الجماعات أجندتها الخاصة ومطالبها الفئوية المحدودة، فالأطباء يريدون "كادراً" خاصاً للأجور، وهذا حق لهم، لكن المطالبة به كانت يجب أن تتم فى إطار هدف عام أشمل وأسمى لرفع الحد الأدنى للدخول فى المجتمع، وضمان حياة كريمة للجميع يشمل كافة المواطنين ولا يفرق بين فئة وأخرى، ولا يخضع لمنطق المكانة الخاصة أو"البرستيج".. ونفس الأمر ينطبق على الصحفيين والمهندسين والمدرسين وموظفى الدولة، بدون تفرقة على أساس نوع المهنة أو المؤهل الدراسى أو وهم الانتماء إلى "نخبة".
والصحفيون يطالبون بمزيد من الامتيازات فى صورة تخفيضات على تذاكر القطارات أو الطيران أو نصيب من شقق مشروعات الإسكان الحكومى أو قطع أراضى مدعمة لبناء مدن سكنية خاصة بهم، وكلها رغبات مفهومة ومبررة فى ظل تدنى أجورهم وهوانهم على رؤساء مؤسساتهم التى تدار بمنطق "العزب"، لكنها تظل فى المحصلة الأخيرة مجرد مسكنات "وقتية"، ومحاولة لاستغلال طبيعة عملهم وقربهم من السلطة فى الحصول على مكاسب من منظور ضيق لا يحفل بالمصلحة العامة، ولا يرتكن إلى وضعهم كقادة للرأى العام وشركاء فى صناعة القرار السياسى، ولا يهدف لتحقيق إصلاحات جذرية يستفيد منها الجميع، بقدر ما يهدف إلى الحصول على جزء من كعكة المال العام "السايب" ونصيب من الأنصبة التى يتم توزيعها على "الأحبة" و"المحاسيب".
والمحامون يطمحون للحصول على حصانة تضاهى حصانة زملائهم فى السلك القضائى، والأجدر بهم وهم رجال القانون أن يطالبوا بتعديل مواد الدستور المعيبة والارتفاع بمستوى ثورتهم لكرامتهم الجريحة بسبب ما يرونه من تعنت بعض القضاة وأسلوبهم غير المناسب فى التعامل معهم، إلى الثورة من أجل كرامة الوطن كله، وكرامة مواطنيهم التى تهدر ليل نهار بسبب غياب العدالة فى المجتمع وسطوة جهاز الأمن واستباحة حقوق الناس وشيوع القهر والاستبداد.
وإذا كان فقدان الأمل فى الإصلاح العام والوصول إلى حالة ديمقراطية حقيقية تساوى بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، وتتيح الفرصة لتداول حقيقى للسلطة وعدم سيطرة حزب حاكم أو مجموعة من أصحاب المصالح على رقاب البلاد والعباد، إذا كان اليأس من حدوث التغيير هو الذى يدفع كل فئة، وخصوصاً من النخبة، إلى الدفاع عن مصالح ضيقة أو المطالبة بامتيازات خاصة ومحدودة.
وإذا كان المثقفون وقادة الرأى ورموز الطبقة المتوسطة التى هى عماد التنوير والتغيير فى أى مجتمع قد تضاءلت أحلامها، وحبست نفسها فى رؤى شديدة الأنانية والذاتية، فمن إذن الذى سيقود حركة التطوير ويضغط على النظام الحاكم وأعوانه والمستفيدين من استمراره لإجباره على التخلى عن تعطيل حركة التاريخ، وكشفه ومحاسبته ودفعه دفعاً لتطهير صفوفه من الفاسدين والانتهازيين والإذعان لحلم الغلابة والبسطاء بالعيش فى وطن يحترم الجميع ويعترف بحقهم فى الوجود والحياة الكريمة.
إن الاحتقان بين المحامين ورجال القضاء لن يكون الأول ولا الأخير بين فئات فى المجتمع تتعارك وتتصارع على أمور شديدة البساطة ويتركها النظام لتأكل بعضها بعضا، ويظل يتفرج عليها بلذة عارمة حتى تصل إلى نقطة معينة تنذر بالخطر وفلتان الأمور، فيتدخل فى الوقت المناسب لإطفاء الحريق، ويترك النار تستعر تحت الرماد، لتشتعل فى مناسبة أخرى أو حادثة مشابهة لتلك التى أشعلت الحريق الأول، المهم أن ينشغل الجميع بخلافاتهم الخاصة وأحقادهم الدفينة وتراث الكراهية القديم عن السبب الحقيقى وراء كل تلك هذه الحوادث العارضة، ألا وهو الاستبداد وغياب الإحساس بالانتماء الحقيقى لهذا الوطن.