حنان، داليا.. بنتان من مصر، يشبهها_ مجازا_ فتيات الشرق، الشرق الذى نظرته فى الأصل هى نظرة ذكورية بحته، وعودة أصلية لهذا الفيلم الذى أرفع لكاتبه ومخرجه "محمد أمين" القبعة وأنحنى له بطريقة أرستقراطية مع ابتسامة موجوعة_ كما لو أنى خارجة للتو من فيلم فرنسى من زمن السبعينيات_ لأنه استطاع بكل حرفية مغزولة بالبساطة تجعلك إن أردت وصفه فى كلمتين فلا خيار أمامك إلا "السهل الممتنع".
منذ أن فتّحتَ عينى ونظرت من شرفة أنوثتى المطلة على خبايا المجتمع التى أجهل منها الكثير، ومنطقى الضيق جدا، المحدود، أن لا أحد بمقدرته التعبير عن مشاعر أنثى إلا أنثى، إلا أن "محمد أمين" هنا أدهشنى بصدق، حينما سلّط الضوء على أحاسيس معينة يتغافلها البعض عن طريق عدسته السحرية بعد أن رآها ببعد آخر ثالث لا هو من منظور أنثوى، ولا هو ذكورى بل بدمجهما معاً.
هو بكل بساطة جسّدَ كل حالات التغير التى تطرأ على فتيات على حافة الثلاثين أو داخل بوتقتها بالفعل، أحاسيس قد نخجل نحن من بوحها، مثلاً فعندما طلبت "حنان" من أحد العاملات فى عملها إرضاع طفلها لترد عليها بأن ثديها ليس فيه لبن لتصدمها بتلقائية إجابتها (أجرب الإحساس بس) أو فى مشهد آخر لـ "داليا" عندما قالت (عايزه راجل يكون صديق من بعيد لبعيد، أتكلم معاه بس) رغم اقتناعها بأنه لا يجوز شرعاً قبل مجتمعاً، أو أن "حنان" تستسمح الطبيب بتأجيل عملية استئصال الرحم لفترة زمنية مؤقتة أملاً فى الزواج والنعيم بإحساس الأمومة، أو أن توافق على إهانة نفسها بالذهاب مع خطيبها للطبيبة للتأكد من سلامة عذريتها لترد الإهانة إلى زوج المستقبل، فيعتذر لها لأنه لن يستطيع إكمال الحياة معها بعد ما حدث!، لتصر هى على التمسك به لآخر لحظة خوفاً من ضياعه والدخول فى متاهات البحث عن رجلٍ أصبح التعثر به دربا من مستحيلا، تماماً كحبيبة تستجدى حبيبها بألا يتخلى عنها، أو عندما تعجب بزميل يخبرها بأمر انفعاله بزميلة لهما أصغر عمراً يريد الزواج بها حتى يستعيد معها شبابه، ومع أول فرصة تسنح لها تحمل طفلاً وتقف به أمامهما كنوع من لفت أنظارهم بأنها مؤهلة لحمِل لقب زوجة، وعن أمر قمصان نومها التى تحتفظ بها جديدة وعلى غلاف كل قميص تكتب اليوم والشهر والسنة لتأتى فى مشهد وتخرج أول قميص فتكتشف أنه يعود لسنة 2002، وفى المشاهد الأخيرة تسجل تاريخ آخر قميص اشترته بعام 2009، وبالتبعية نظراتها لأى عاشقين، ومشاعر بنت فى الثلاثين ملأى جدران غرفتها بصور أطفال تداعبهم وترسل لهم قبلات هوائية كلما اشتد عليها الحنين، أو حديث دار بينها وبين طبيبتها النفسية "بأن الجنس مقدور عليه أما الاحتياج العاطفى.. لا"، أو تنازلها عن أبسط حقوقها فى مكتب استقبال طلبات الزواج، أو نظرات "داليا" لدبلة سكنت إصبعها يوماً جعلتها تشعر بالدفءِ والأمان، أو اقتناع "هويدا" أحد عناصر الفيلم بممارسة علاقة غير كاملة لعل وعسى إن تزوجت..!.
لو رصدت اللحظات الأنثوية هنا سأحتاج الكثير، الكثير من الوقت، ولو أحببت اختزال الموقف السياسى وعفن المجتمع فقد ظهر فى غرق العبارة المهاجر عليها شبابنا فى هجرة غير شرعية وعودتهم جثثاً وأشلاءً وبقايا أحلام، ووطن رخيص بلا كرامة يسمح بموت أولاده هو لا يستحق لقب ثلاثة أحرف معناهم نبيل "وطـن" أى احتواء، والقبض على إخوانى وكاتب عبّر عن رأيه فى مقال لا يتعدى الصفحة، وتعذيب صديق له تحت مسمى قانون أحمق قانون الطوارئ، أو عفن معارض منضم لأحد الأحزاب مع أول موقف يتعرض له يستنجد بأحدهم وأمس كان يهتف ضدهم.
الفيلم رائع بكل المقاييس، صادم بحقائق معاشة أدق تفاصيلها يومياً، باقة من التميز والتفرد كانت تحوط هذا العمل السينمائى الذى سيظل نقطة تحول فى حياة كل من كان له علاقة به سواء من قريب أو بعيد.
إننى عندما قطعت التذكرة ودخلت صالة العرض وجلست على المقعد، أرتشف المياه تباعاً بانتظار العرض لم أكن أتخيل لحظة أننى سأتلصص على دينا!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة