أعرفه منذ ثلاثة عقود على الأقل، مجرد شاب أسمر بسيط، يميل إلى الطول، لا تحتاج هيئته لدليل إضافى لانتمائه للكادحين، يبدو- دائمًا- مرهقاً متوتراً، أشعث الشعر، يتحدث بعصبية وغضب، يتبنى آراء شديدة التطرف، مزايداً على كل المتحدثين، ولأنه يصادفه فى أى مكان وفى أى زمان فمن الصعب أن تعرف - بدقة - أين يسكن أو ماذا يعمل، لكن المؤكد أنه اقتنع بوجوده فى الهامش، كناشط سياسى، كما يقال هذه الأيام، فلم يتبوأ موقعاً سياسياً أو تنظيمياً، رغم أنه عضو نشيط ودءوب فى حزب التجمع منذ تأسيسه، أما الدائرة الجغرافية التى يتحرك فيها، فتمثل (سُرَّة) الأحياء الشعبية فى القاهرة، والتى تشمل عابدين والسيدة والخليفة والدرب الأحمر والجمالية وباب الشعرية، تراه يجوب الشوارع والحارات، يأكل من عربات الفول، يشرب شاياً فى الخمسين، ليستكمل سيره العشوائى وحواراته الحادة، يحتمله الناس ثقة فى صدقه، أو مجاراة له، وأحياناً خوفاً من لسانه الطويل، وربما تجد من يهمس فى أذنك: لا تفضفض معه بالكلام ده أمن!.. وتمضى مسيرة حياة الرجل بشكل عشوائى، تختلط عنده الأوهام بالحقائق، يرتبط بحزب التجمع (نصير الكادحين) ثم يسب قياداته لأنهم باعوا الحزب للحكومة على حد قوله، شارك فى كل الفعاليات السياسية والاحتجاجات الاجتماعية، لكنه لم يظهر فى أى صورة، يجالس السياسيين والنواب والصحفيين، يرى الصفقات بعينه تتوزع يميناً ويساراً، وكذلك المال السياسى و(السبوبات) تجرى على قدم وساق، بينما حاله كما هو، لا يتقدم شعره ولا يتأخر، يعود إلى بيته كما يعود كل يوم خاوى الوفاض من أى مكسب باستثناء جرعات من الكلام وتلال من الأسرار والكواليس سواء فى معسكر الحكومة وحزبها الوطنى أو المعارضة بجميع فصائلها، صار صاحبنا يعرف أكثر مما ينبغى، واحتمل مكاره السياسة أكثر مما ينبغي، لكنه لم يحصل على أقل ما ينبغي، تحول إلى عابر سبيل، يعرض نفسه على الجميع ليخدم من يرى أنهم تعبير عن قناعاته، فلا يجد منهم من يسد رمقه ونهمه السياسى كمحترف، اقترب مؤخراً من مطابخ انتخابات الشورى فى وسط القاهرة، ورأى الحزب الوطنى يزور الانتخابات لصالح ما يسمى بالمعارضة، وتابع كيف نجح عضوان من المعارضة باكتساح، وتأكد أن عصر الصفقات بدأ واضحاً فاجراً، بلا لف ودوران وبدون أسرار، كله على المكشوف، ففكر (تعمل إيه يا مجدى؟ تعمل إيه يا مجدى يا غلبان) وكانت الإجابة أن قرر مجدى ألا يكون غلباناً على الإطلاق، وأن ينتقل من الهامش إلى المتن ومن رصيف السياسة إلى منصاتها، وكان له ما أراد، ففى الخواء الذى تحياه مصر الآن، أكبر فرصة لمجدى الكردى ورفاقه لكى يتحققوا بأى طريقة، وعنده ألف حجة لتحويل الدفة من أقصى اليسار لأقصى اليمين، ولن يجد من يحاسبه، فهو بلا سيرة ذاتية، وليس صاحب تاريخ مجيد وليس نجماً تليفزيونياً، يتتبعه المشاهدون، ثم إنه رأى الكبار يتنازلون وتزل أقدامهم، ورأى المعارضين يتقبلون الرشاوى السياسية برحابة صدر، وفى الوقت نفسه، شاهد عن قرب حزب الحكومة يتخبط فى أفعاله وأقواله، فكان قراره الانتقامى من نفسه ومن الآخرين.. إنه الآن فى الستين وقد كان ينتحر دون مقابل، فلماذا لا ينتحر الآن بأعلى مقابل؟ ووجدها الكردى فى معركة التوريث التى تدور رحاها بقوة منذ خمس سنوات على الأقل، ومع ذلك يبدو النظام عاجزاً عن فرض السيناريو وتعميد جمال مبارك، وتبدو المعارضة أعجز من منع السيناريو إذا تحقق، الحكومة ورجال أعمالها الذين ربطوا السلطة بالمال يقاتلون لمجىء جمال بك دفاعاً عن مصالحهم، لكن الوريث بلا قاعدة شعبية رغم كل التلميع والتوضيب..
طيب.. تتصرف كيف يا مجدى يا كردي.. تتصرف كيف يا مجدى يا كردى؟.. تعمل لجنة شعبية لدعم الوريث.. لا بلاش لجنة، خليها ائتلاف، وأنت المنسق، وطبعاً يا مجدى يا غلبان أنت ولا غيرك يقدر يجيب جمال أو يلغى جمال. إذن هى مجرد حركة والحركة بركة، ربما ظهرت فى التليفزيون والصحف، ربما ارتديت بدلة شيك، ربما حملت جهازين موبايل، رركبت سيارة حتى لو مجرد تاكسى، ويمكن تحصل على شقة، أو تتجوز تانى، وتصبغ شعرك، والكل يطلب ودك أو التصوير معك، لابد أن تنتقم من كل الذين تجاهلوك ونظروا لله من أعلى لأسفل، تجعل المحللين والسياسيين يهتمون بكل حرف تقوله، سيظهر اسمك فى المانشيتات، توكل على الله يا مجدى، ... وتوكل مجدى على الله، وتحقق له ما أراد وأكثر حينما قرر ألا يكون غلباناً.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة