أرجوك لا تمشى بجوار النيل، أو تحاول أن تتنسم هواء القاهرة من فوق كوبرى الجامعة، أرجوك لا تطل الوقوف عند تمثال نهضة مصر الذى نحته الفنان العبقرى محمود مختار، وإذا أردت دخول حديقة الحيوان، فلا تنظر خلفك ولا فوقك، ولا ترفع ناظريك إلى السماء، أغمض عينيك حين ترى البوابات الأمنية فى شارع بن مالك، والمساحات المعتقلة على كورنيش النيل، لا تنظر إلى وجوه خير أجناد الأرض التى كساها الشؤم والقرف، لأنهم يقومون بحراسة شر من فى الأرض.. نعم لا ترفع هامتك إلى أعلى، دع رأسك يسقط بين منكبيك، ففوقك علم إسرائيلى يلوث الهواء والسمع والنظر، يرفرف تحت سماء النيل كسكين فى يد جزار، يلوح نصل علم السفاحين الأفاكين فوق الرقاب، إذا أردت الاستمتاع بكوب شاى فى «الخمسينة» أو حمص الشام، فعليك بأى كوبرى آخر، لا تشعر فيه بالمهانة التى شعرت بها حين أغوتنى قدماى للعبور من المنيل إلى شارع الجيزة مروراً بكوبرى الجامعة، أرأيتم حجم الكارثة النفسية والوطنية التى يقع فيها أبناؤنا الطلاب فى رحلتى الذهاب والإياب من وإلى جامعة القاهرة ، حينما يرفرف فوقهم كل يوم علم نجمة داوود بالخطين الأزرقين علامة على حلم «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات، وتتعمد سفارة العدو الصهيونى رفع علمها فوق النيل الخالد على أعلى بناية تجاور النهر العظيم، وفى الليل تسلط الإضاءة القوية والمكثفة من كشافات عديدة، لتظل رايتهم البغيضة خفاقة طوال الليل والنهار. ذلك المشهد العار الذى التصق بجبين القاهرة منذ مطلع الثمانينيات يكاد يتسبب فى قتل المناعة النفسية للشباب المصرى، خاصة ذلك القطاع الذى نحرته البطالة والفساد وخنقته ممارسات القمع والتعذيب المنهجي، فهل يتصور أحد أن يسافر شبابنا للعمل والزواج فى دولة الاحتلال، وبعضهم من أبناء الريف والدلتا وتحديداً من البلاد التى كانت على خط المواجهة مع الصهاينة، لابد أنهم استمعوا للسادات وهو يصف السفاح بيجن بالصديق، وتكررت على مسامعهم تصريحات الرئيس مبارك التى يشيد فيها بثقته فى التزام أولمرت ونتنياهو، ولابد أن هؤلاء أيضاً شاهدوا يوماً العلم الإسرائيلى يتراقص فوق رءوسهم.
فحينما غزت عصابة تل أبيب بيروت كان علمها يرفرف فى القاهرة، وحينما ضربت مفاعل العراق وقصفت تونس والسودان، وشنت حربها على لبنان ثم على غزة، كانت المجازر والجنازات والدماء والخراب فى كل مكان بينما رمزية «إسرائيل الكبرى» فوق النيل، هل نتحدث عن رمزية العلم ودلالاته، وتأثير صورته فى الشحن النفسي؟ هل نستعيد مشاهد جنودنا على ضفة القناة، حينما كانت مجرد رؤيتهم للعلم الإسرائيلى على الضفة الأخرى، تحولهم إلى وحوش كاسرة تتوق لساعة الثأر، حتى تحققت فى أكتوبر 1973؟.
المصيبة أن بعض مدارسنا نتيجة للزحام والتكدس فى فترتين أصبحت تستغنى عن تحية العلم الوطنى.. وتخيلوا أيضاً هذه الكارثة أن طفلاً أو شاباً غضاً قرأ بالصدفة خبراً يقول «وقد أرسل السيد الرئيس محمد حسنى مبارك برقية لرئيس دولة (إسرائيل) للتهنئة بقيام الدولة، وقد أعرب السيد الرئيس عن تمنياته له ولدولته بـ .....» وهى برقية حقيقية تتكرر طوال السنين الماضية كلما مرت ذكرى النكبة «ضياع فلسطين» فى 14 مايو 1948.
... هل فكر أحد فى تأثير هذه المصائب على مناعتنا النفسية والوطنية، بعد أن تم الفتك بمناعتنا الاجتماعية والاقتصادية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة