جاءتنى الكثير من الاتصالات، على خلفية مقالى السابق: "عزازيل وسعى المحتار فى ليل الأسرار"، الذى نُشر يوم الخميس 13 مايو الجارى، حول الدفاع عن حرية التعبير الخاصة برواية عزازيل، تباينت ردود الفعل ما بين مؤيد ومعارض ومن وقفوا فى المنطقة الرمادية. وبالطبع، فإن من يدافع عن حرية التعبير لروائى وعالم، يجب أن يتقبل النقد من قبل الجميع، فهذا هو المعنى بحرية الرأى فى الأساس.
إن الشعور بالظلم الطاغى والدائم، ليس عيباً "فقط" فى المحيط حولنا، ولكن توجد أيضاً عوامل مساعدة بداخلنا قد تشعرنا بهذا الظلم، لا وجود لذاك الإنسان الخالى من الخطيئة فى مجمل الكون "لا أتكلم عن الخطيئة الدينية بالأساس، ولكن مُجمل الخطأ"، ولا يوجد ما يعرف "بالطُهر" العرقى، إلا لدى قادة العنصرية من أمثال هتلر وستالين، ولا يوجد "دوماً" طرف واحد يتحمل اللوم عن "مجمل" المشاكل، من نوعٍ واحد، فالمظلوم يصبح ظالماً فى وقتٍ ما، عندما يطول القهر بردود فعل قد تبدوا ظالمة، فتشير الأصابع إلى المظلوم، ويتهم بالقهر أيضاً! وها هم "اليهود" "كقومية وليس ديانة" على مستوى العالم! لقد ظلموا فى الماضى! فأين هم اليوم من هذا الظلم؟ إنه مثال من التاريخ، وليس مثالاً من مصر، ولكنه مثال على ما يمكن أن يحدث يوماً إذا ما أخذ المظلوم حقه، بناءً على عوامل غير طبيعية، مبالغ فيها، مثلما الحال بالنسبة ليهود إسرائيل اليوم!
كم من مقالات تشير إلى "مُجمل" المسلمين بل والإسلام وتعاليمه بأصابع الاتهام فيما يتعلق بالفتنة، إنه ظلم أيضاً، وتجييش للمسلم الذى لا يعنيه الأمر فى الأصل ليصبح كاره لمن هم ليسوا مسلمين، ويتهمونه ليل نهار، رغم أنه لا يفعل ما يتطلب هذا الاتهام! إن طول المشكلة هو ما أدى لذلك! إنه من نفس النوع الذى يتهم الأقباط والديانة المسيحية، بالمسئولية عن كل شىء! إنه رد فعل، دون وجود قادة موجهين له، وإنما مُنقادين به! إن كلاً الديانتين، ليستا متهمتين بأى شئ! وإنما المشكلة فى عدم الرؤية الدقيقة لمكونات الفتنة، لأن المشكلة جثمت بظلها على أغلب ما تيعلق بالمواطن، فلم نعد نرى غير الدين، رغم أنه العنوان فقط، ليس أكثر!
هناك إشكالية كبيرة فى مصر، هى أننا فى أغلبنا، نرى أنفسنا من منطلق الأديان. فمنا من يرى "إعتداء المسيحى على المسلم"، ومنا من يرى "إعتداء المسلم على المسيحي" (ليس الفعل الإرهابى فقط اعتداء، ولكن يرى البعض فى استيلاء على أرض ما، إعتداء وتحريض أيضاً)، ومنا من يرى أن "المسلم دوماً مظلوم"، ومنا من يرى "المسيحى دوماً مظلوم"! إنها الرؤية العكسية والمضادة لتطبيق المواطنة! ولقد كنت يوماً أنتمى إلى إحدى تلك الرؤى، حتى رأيت أن المسألة برمتها، ليس فى مسيحى ومسلم، وأن النظر بتلك الطريقة، إنما هو دعما للفتنة! وأنى يجب وأن أنظر إلى المسألة برمتها على أساس أنى مصري، وكل من يحملون جنسية بلادى مصريين، وأن مسألة النظر من خلال بؤرة الدين، ما هى إلا مسألة "يُراد" لنا أن نُقيم الأشياء من خلالها! إن هناك من لديه مصلحة فى إبعادنا عن التقييم وفقاً "للمواطنة" وأن نبقى بداخل حيز "الدين"!
إن استمرار التقييم وفقا لتلك النظرة، إنما يؤكد استمرار المشكلة إلى الأبد! ولا يمكن لجانب من الجانبين حلها وحده، بمعزل عن الآخر، كما لا يمكن لجانب بوقوفه "الدائم" إلى جانب الطرف الآخر، أن يحلها بنُصرة الضعيف، وليس نُصرة "الحق"! يجب أن نقيم الموضوع كله وفقا لرؤيتنا "للحق" والمظلوم أياً كان من "المصريين"! إن كان المظلوم فى الغالب مسيحي، فلنسمه "مصرى مظلوم"، وليس "مسيحى مظلوم"! فهناك كثيرين فى الوطن لا يرون أنه مظلوم من الأساس! سيقول البعض: أنه قصور فى الرؤية! جميل! وليكن! أنتم أحد أسباب هذا القصور، لأنكم دوماً مع طرف ضد طرف، وليس مع "الحق" فى مطلقه، ضد "الظلم" فى مطلقه!
عندما دافعت عن حرية التعبير، ممثلة فى رواية "عزازيل" دافعت عنها وتهجمت على السلطة المواجهة لها، فى المطلق، وتبعا للدفاع عن المبدأ ليس الشخص. هناك فرق جبار، فالشخص، يمكنه الدافع عن نفسه! أما المبدأ، فندافع عنه جميعاً! لم يكن المقال بالنسبة لى هجوماً على "السلطة الدينية" المسيحية من منطلق كونى مسلم! وهو ما أكدته فى نهاية مقالى الماضي! فلا أحد يملك الحق كله! كما أن الدفاع عن طرف واحد طيلة الوقت ونسيان "تحريض" الطرف الآخر، ما هو إلا عنصرية وتكريس للتمييز وليس عدلاً! فالبعض يظن، "وكنت واحداً منهم بالمناسبة" أن تحميل طرف واحد فقط وزر كل شئ، لهو عدل للضحية، ولكن التجارب التاريخية، تثبت العكس!
لقد ظلم اليهود "كقومية وليس كدين"، يوماً ما، ولكن ما الذى يفعلونه حيال من يحتلونه اليوم فى إسرائيل؟ اعتبر الكثيرين فى أوروبا، أن اليهود قد ظلموا، ويجب تعويضهم بالوقوف بجانبهم فى "المطلق"! فماذا كانت النتيجة؟ ظلم الآخر! اليوم لدينا الظلم الواقع على المسيحيين فى مصر، ولو أننا تناولنا جانب مظلم لديهم، أتهمنا البعض، بأننا متعصبين، بينما الواقع أن من يتهمنا هو المتعصب، لجانب ضد الآخر! إن الوقوف، يجب ألا يكون مع طرف ضد طرف، أو مع الضحية ضد الجلاد، ولكن مع الحق فى مطلقه ضد الظُلم فى مطلقه! فان رأينا ما يستحق النقد فى الكنيسة تعرضنا له! وإذا وجدنا ما يستحق النقد فى المسجد، تعرضنا له! أما أن نقف طيلة الوقت مع الكنيسة ضد المسجد؟ فهذا ليس عدلاَ ولكنه ظلماً بين! ولا يمكن إدانة السلوك "الإسلامى" بمعزل عن إدانة السلوك "المسيحي"، لأن لدينا إنعزال مسيحى أيضاً أدى إلى التطرف، حتى أن الغرب تناول ذلك مؤخراً على خلفية رواية "عزازيل" مؤكداً فى مجلة الأكونومست، بأن التطرف ليس مسلماً، حيال "ألف ليلة وليلة" فقط، ولكنه كذلك أيضاً من الزاوية المسيحية، على خلفية "عزازيل"!!
وليس الدفاع عن حرية التعبير ممثلة فى عمل "إبداعي" ما، تعنى أن المدافع عن حرية هذا العمل، يؤمن "بمجمل" ما كتبه هذا المبدع. فعندما كتبت مدافعاً عن حرية تعبير سيد القمنى هنا، لم يكن هذا يعنى أننى أتفق مع مُجمل آراء الرجل! إن كلُ منا يملك عقلاً، يميز بين مختلف المعلومات والتحليلات، و"يستحيل" أن تتفق مع شخص، أياً كان، حول كل شئ! لا يوجد مثل هذا القول أو الاعتقاد، إلا لدى من تربى وفقا لمفاهيم ديكتاتورية أو من يعمل على تحديد موافقته على عمل ما، وفقا لتحديد هوية الشخص، وما إذا كان يحبه أم لا! وتلك كلها أمور مغرضة لا يمكن العمل بها وفقا لمنطق الفكر! فان كتب إسرائيلياً اليوم كتاب أو رواية "إبداعية" لا يمكننا أن نرفض العمل مسبقاً، لأن الرجل إسرائيلي، وبلاده تحتل جزءاً من الآراضى العربية!
إننا وبينما نغوص فى الجانب "الإسلامي" فى قضية الفتنة، نتخطى حقيقة، أن الجميع "مخطئين" بنسبة ما، كمصريين، غابوا عن الوطن والإنتماء له، ودنسوه بأحقاد قالوا أنها دينية، بينما الدين ليس إلا عنواناً بها! كلما تكلمت مع طرف ما حول أزمة تحمل تلك الطبائع، ظهرت كلمتى "مسلم" و"مسيحى"، وبالطبع بعنت كلا الطرفين للطرف الآخر بأسوأ النعوت!
ستستمر الفتنة إلى أبد الآبدين، طالما أننا نتناولها بشكل يمثل فيه الدين "العنوان" الرئيس، ولن ننتهى منها أبداً طالما مضينا على طريق إدانة جانب فى الوطن ووقفنا مع الجانب الآخر! لقد حل اليهود الإضطهاد الموجه ضدهم، بأن خرجوا خارج "عزلتهم" وإندمجوا مع غيرهم فى أوروبا، وها هم، نراهم، ولكن الكثير منهم فى إسرائيل قد فجروا! فلنحل مشكلتنا فى الوطن بشكل طبيعى من خلال مناصرة الحق، دون مملاءة طرف ضد الآخر، لأن هذا سيزرع الكره، حتى بين من ليس له يد به! لا يصلح أن نرى الحق، ونحيا الباطل!
مصر ليست مسجداً أو كنيسة!
مصر وطن لنا جميعاً كمصريين!
أستاذ علوم سياسية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة