إيمان محمد إمبابى

بصمات الفتايين!

الأحد، 07 مارس 2010 06:36 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أربعة مواقف بينها خيط واحد.. قفزت من أماكنها فى الذاكرة.. كل منها تستدعى الأخرى.. وتستدعى الكثير من التفاصيل والحكايات الأخرى.. التى تحرضها مسرحية "الفتى" الهزلية.. التى تعرض بلا انقطاع منذ عدة سنوات!!

(1)
فى صيف العام 1995.. ضمن حديث متواصل بينى وبينه.. روى لى الصديق نزيه جرجس.. الكاتب وناشر الأطفال.. للمرة الأولى حكاية العريف محمد.. فى الكتيبة التى كان المهندس نزيه ضابطا احتياطيا بها.. فى نهاية الستينات من القرن الماضى.. فيما سمى بحرب الاستنزاف.. إنفجر لغم روسى أثناء تركيبه.. ولم يكن قد تم تدريب الجنود على التعامل معه.. علا التراب والدخان.. ولما انقشع.. كان مخلفا وراءه بقايا العريف محمد وغيره من الجنود.. كان نزيه يروى لى– مستدعيا اللحظة– كيف جمع بيديه أشلاء العريف الشاب.. الذى ظل بصحبته لسنوات.. عالقين فى الصحراء كما غيرهم من الشباب وقتها بعد 1967.. العديد من أكواب الشاى التى دارت بينهما.. العديد من الحكايات.. والاحلام أيضا.. وفى أول فرصة لأجازة.. ولى نزيه جنوبا صوب إحدى قرى الصعيد.. فقدم واجب العزاء لأسرة الشاب الراحل.. وظل بعدها يحكى حكايته تفصيلا..

لم يكن يحكى لى تلك القصة ليدلل بسذاجة – كما يحدث دائما – على الوحدة الوطنية.. والأيدى المتشابكة لشيخ الأزهر والبابا شنودة الثالث فى مناسبات بعينها.. أو عقب حوادث بعينها.. كان يحكى حكاية إنسانية.. عن بشر عاشرهم فى حياته فتركوا عليها بصمة لا ينساها.. ظل يحكى نفس الحكاية من زوايا عدة.. على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية.. دون التفات لعرق أو لون أو دين.

(2)
منتصف عام 2008.. فى التاسعة مساء.. كنت داخل كنيسة عتيقة فى مصر الجديدة.. أحتفى بصديقة عزيزة.. جانيت سمير.. متخصصة فى تدريب أسر الأطفال ذوى الإعاقات الذهنية فى أحد المراكز المتخصصة.. كان زفاف صديقتى.. أقف فى نهاية القاعة المكتظة بالحضور.. أرصد كل تفصيلة، مبتهجة من داخلى.. بكل الذين شكلوا دائرة حول العروس والعريس والقس الذى يكلل الليلة.. دائرة من النساء والفتيات مرتديات الحجاب بكل الألوان.. يزغردن ويقمن بتصوير العرس ويرددن – كما جميع من فى القاعة – الأدعية التى يلقيها القس.. جانيت التى أحبها الأطفال الذين تعاملت معهم طيلة عملها.. استقبلت فريدة منذ أشهر قليلة.. أحببت أم فريدة لأنها إنسانة مصرية حقيقية.. دربت آلاف الأسر المسلمة.. دون التفات من أى من الطرفين للون أو عرق أو دين.

(3)
فى كل عيد إسلامى.. منذ وعيت صغيرة معنى العيد.. يدق فى الصباح هاتف المنزل.. لويس خلة.. زميل رحلة والدى فى مؤسسة الأهرام: "كل عام وأنت والأسرة بخير".. جملة اعتادها والدى من صديقه.. يتهاتفان فى أوقات متباعدة منذ أحيل كلاهما للتقاعد.. يحرص على تلك المكاملة السنوية فى كل عيد.. كما حرص والدى على مهاتفته فى عيدى القيامة والميلاد.. حتى كان اليوم الأول لعيد الفطر عام 2006.. دق الهاتف.. فرفعت السماعة.. جاءنى الصوت على الطرف الآخر: "كل سنة وانتم طيبين.. محمد موجود؟".. رددت: "وأنت طيب.. من يتحدث؟".. قال: "لويس خلة".. رددت: "لقد توفى منذ اسبوعين".. قال بصوت متحشرج بعد لحظة صمت طويلة استوعبتها جيدا: "وأنا لا أعرف؟!".. إنتقلنا من المنزل.. فقدت رقم هاتفه.. أود الآن البحث عنه.. لكنى أخشى من مفاجأة كالتى استقبلها هو منذ 4 أعوام!

(4)
فيروز محمد شعبان.. وميرنا جورج.. فتاتان فى الرابعة عشرة من عمرهما.. امتدت علاقتهما الحميمة واللصيقة بابنتى بسنت منذ أكثر من عشر سنوات.. فى روضة الأطفال بإحدى مدارس اللغات الفرنسية.. ثلاثتهم يمضون فى أى من البيوت الثلاثة وقتهما دائما.. وثلاثتهم يعشقون الرسم وتصميم الأزياء وسماع الموسيقى.. منذ عامين.. جاءتنى ابنتى من المدرسة غاضبة.. فقد "أفتت" مدرسة التربية الدينية بأن تتناول أى منهن طعاما من مسيحية حرام!!.. كظمت غيظى أصغى لثورتها على جهل مدرسة ضحلة الثقافة.. خرجت عن منهج المادة التى تقوم بتدريسها.. منافسة كل "الفتايين".. الذين تنضح بهم الصحف والفضائيات على تنوعها.. تاركين بصماتهم المشوهة على جدران البنايات المختلفة.. وداخل عربات مترو الأنفاق.. فى شكل دعوات للحجاب.. أو أدعية ضد من يرونهم كفارا.. أو تشوهات فى نفوس الصغار.. فى اليوم التالى ذهبت لمديرة المدرسة وفى اليوم نفسه اختفت المدرسة.. لم تعد تدرس مادة التربية الدينية.. لينتقل فيروس الفتوى إلى مدرسة التربية الفنية التى "أفتت".. بعد أن شاهدت المحاولات البدائية لثلاثتهن لتصميم الأزياء.. بأنه حرام!!.. لماذا؟.. لأن رسم الفستان القصير حرام.. ورسم فستان بدون أكمام حرام.. ورسم بنطلون للفتاة حرام!!..

ابنتى مازالت تأكل فى بيت ميرنا.. وتصمم أزياء كيفما يحلو لها.. وتدرك – كجيلها – أن الأصل فى الحياة البشر.. على كل اختلافهم.. فهكذا خلقهم الله.. سعيدة أنا لأن محاولات "الفتايين" لتشويه هذا الجيل.. لم تفلح – حتى الآن – فى ترك بصمات مهجنة على نفسه.. وأتمنى ألا تفلح!!

• كاتبة صحفية بالأهرام





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة