حينما كتبت أمس عن أنه لا توجد دولة فى العالم تدعم الأغنياء، على هامش أزمة البوتاجاز، علق بعض الأصدقاء على المقال بأنه نوع من الحقد الطبقى، فلا توجد أيضا دولة فى العالم تضع سعرين لسلعة واحدة.. أحدهما مدعم للفقراء.. والآخر غير مدعم للأغنياء.. وهذا صحيح جدا.. لكن المفارقة المهمة أن ما ينفق على الدعم فى مصر يفوق ما ينفق على الصحة والتعليم والبحث العلمى وهذا أمر غير مقبول وغير معهود ولا يمكن أن يستمر.
فى كل العالم فقراء وأغنياء.. وفى معظم الدول وحتى الرأسمالية من بين مهام الدولة توفير الرعاية الاجتماعية لمواطنيها، بمعنى ألا تترك الفقر ينهش أجسادهم، حتى يتحولون إلى اكوام من العظام قبل أن تنتهى حياتهم.. لكن الخلاف بين الدول هو فى كيفية أن تذهب أموال الرعايا الاجتماعية لمن يستحقها فعلا.
ومنذ سنوات طويلة أوصى البنك الدولى الحكومات بالتوقف عن الدعم الشامل لسلع أو منتجات معينة، وابتكار أساليب أخرى اكثر ديناميكية وذكاء تضمن وصول الدعم لمستحقيه، فصصمت المكسيك على سبيل المثال برنامجا خاصا بها، تم بقتضاه تحويل الدعم العام فى السلع والخدمات إلى دعم فى الرعاية الصحية والتعليم، حيث يحصل الأطفال على ألبان أطفال مدعومة، وتنفق الحكومة على تعليمهم وتطوير المدارس وتوفير الرعاية الصحية.
وأدى هذا البرنامج إلى محاربة الأمية من ناحية، ومحاربة الأمراض، ومن ثم الارتقاء بمستوى الأسر ورفع كفاءة الخريجيين ودفعهم لسوق العمل بعد تلقيهم تعليما حقيقيا.. لكن فى دول أخرى توجد أنظمة مختلفة مثل إعانة البطالة أو عانات الضمان الاجتماعى التى تصرف على بطاقات ممغنطة، يشترى بها المستحقون السلع والخدمات المختلفة.
وحسب ما أعلم، فإن فى مصر مشروع مشابه يجرى تطبيقه بشكل تدريجى فى عدد محدود من المحافظات، وتتيح مثل هذه البطاقات التى ترتبط بشبكة حاسبات آلية معرفة ما ينفقه الفقراء على السلع والخدمات، وبشكل ألى يجرى تحديد أكثر السلع التى يحتاجها الفقراء وحجم ما ينفق عليها.. ويسمح مثل هذا النظام الذكى أن يشترى الجميع السلع بسعر واحد من السوق، لكن الفرق الوحيد هو أن الدولة تسدد نسبة من قيمة السلعة لمن لا يستطيع شراءها.
قد يكون هذا النظام فعالا إذا تم تطبيقه بشكل واسع، لأنه كما قال القراء لا يمكن بيع سلعة معينة بسعرين احدهما للأغنياء والأخر للفقراء.. لكن يجب التأكيد على أنه لا توجد دولة فى العالم تدعم فاتورة الغاز والبنزين والسكر والزيت وغيرها للأغنياء كما تدعمها للفقراء.. لأنه ليس من واجب الدولة الأساسى دعم السلع والخدمات، وإنما توفير البنى التحتية وخلق فرص العمل التى تتيح للمواطنين حياة كريمة.. وحين تعجز عن ذلك فعليها ابتكار حلول ذكية لتمنع موت الفقراء من الجوع.. لا أن تسمح بتدهور التعليم والخدمات الصحية والبحث العلمى والتشغيل لأنها تنفق أكثر من خمسن مليار جنيه على دعم الطاقة.. بينما أكثر المستفيدين من هذا الدعم لا يستحقونه!