رأيت أن أكتب جزءا ثانيا لمقالى السابق، عندما وجدت الأصدقاء وقد أصابهم الإحباط منه، وقد كنت أعتزم كتابة هذا الجزء الثانى، فى وقت لاحق، كمقال مستقل، ولكن رأيت أن الربط سيكون أفضل، قبل أن ينسى القارئ، ما طرحته فى المقال السابق. وقد قلت وكملخص، إن الديمقراطية لم يتم استيعابها وتشرُبها بعد، فى المجتمعات العربية، وأنه كى تطبق، يجب ترسخها فى تلك المجتمعات، وفهم مكوناتها، وقلت أيضاً، إن ثقافة "الواحد" أى "تقديس" المنظومة أو الشخص الواحد فى شتى المجالات، هى الحاكمة لنا. وقلت إن الدولة أكثر قوة لأن المعارضة لا تقدم بدائل واقعية للتغيير، وبالتالى، تستغل الدولة الحراك السياسى بدهاء.
وكاستناج، رأيت أننا لسنا مؤهلين بعد كمجتمع، لتبنى الديمقراطية، لأن الرغبة فيها لا تكفى، ولكن يلزم معها أيضاً القُدرة على التطبيق.
أكتب اليوم لأضيف الجانب المُشرق فى التجربة التى مر بها العالم العربى، خلال السنوات الماضية، منذ عام الإنفتاح السياسى فى المنطقة العربية: عام 2005! حيث إن ما يحدث على الساحة العربية، لا يخلو أيضاً من بوارق أمل، تُساعدنا فى إنارة طريق التغيير والديمقراطية الحقيقية، تلك الأضواء التى ترشدنا فى ظلام الديكتاتورية، وبينما هى من صُنع النظم القائمة، فإنها كانت داعمة لنا فى تخطى عصور مختلفة تماماً، عما سبق عام 2005. وأهم تلك الأضواء، هى أننا نكتب هنا ما نريده، وبمنتهى الحرية، ولم يكن هذا مُتاحاً فيما سبق. لقد كانت الكتابات، فى أغلبها، فى الصحف القومية والخاصة، مُعبرة فقط، عن رؤية النظم القائمة. واليوم، نكتب دون قيد، ولا يوجد كلمة تُحذف، من المقالات، حتى تلك التى تتناول الزُعماء ذاتهم، رغم أن تناولهم يتم فى قلة من الدول الناطقة بالعربية، مثل مصر، بينما يتم فى دول عربية أُخرى، تناول المنظومات الحاكمة بعيداً عن الزُعماء، إذا ما تم تشويه تلك النقطة، فان هذا يُراد به تزييف حراك التاريخ. ولقد شُوه التاريخ، فيما قبل، ولكن من قبل الحاكم. أما أن يُشوه اليوم من قبل المحكوم، فان الديكتاتورية، بذلك ربما تنتقل من مكانها الطبيعى، لتُصبح فى مكان مختلف تماماً، وهو الأمر الذى يُمكنه أن يُساهم فى تأخير الديمقراطية أكثر، بأيادى الناس، مُساعدين فى ذلك النُظم فى شئون أُخرى!!
إن المجتمعات العربية، كانت فيما قبل أكثر سوءاً، ولكن اليوم، ولأن الناس أضحت أكثر متابعة للأحداث، فانهم، ومع تيارات الإحباط "الإقتصادية" الكبيرة بالإضافة إلى الإنفتاح الإعلامى فى الصحف وبرامج الحوار، يرون الصورة بشكل أقرب إلى أحاسيسهم المُحبطة! فهم لا يطلعون على ما يتحقق على الأرض، من إصلاحات، تُتيح لهم النقد، على أقل تقدير. ولكنهم يرون فقط صور الفساد، رغم أنها قلت ولم تتزايد. والغريب، أنهم وفى ظل الديكتاتوريات الحالية، لا يرون، أن الدولة، هى التى "تُتيح" الكشف عن هذا الفساد. إنهم يظنون، خطأً، أن هذا من فعل المعارضة، التى لا حول لها ولا قوة! وكمثال واضح على التغيير، ففى مصر، يتم تناول موضوع "الطائفية" من قبل الأقباط وغير الأقباط، بشىء من الانفتاح، غير المسبوق. لا أقول أن تلك الطائفية قلت أو إنتهت، ولكن أقول، أن التناول، لم يعُد خطاً أحمر، مثلما كان، مما يُتيح القضاء على الظاهرة مُستقبلاً! وأصبح تناول المسائل ذات العلاقة بالدين، فى المملكة العربية السعودية، الوهابية، أكثر انفتاحاً، حيث يشغل السعوديين اليوم مثلاً موضوع زواج طفلة فى سن 12 سنة من عجوز فى سن 80، ويرفض قطاع كبير منهم مسألة المقارنة مع ما تم فى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام من تزوجه بالسيدة عائشة رضى الله عنها، فى ذاك السن الصغير، لتغير الظروف والوقت!!
ففى إطار المقارنة البسيطة بين الأمس واليوم، نجد ومما هو معروف، وليس خفيا عن الأعين، أن المُعتقلين، كانوا يُعتقلون لأسباب غير معروفة للعامة، غير كونهم يعملون فى السياسة، وأنهم كانوا يودعون سجون لا يعلم عنها أحد. أما اليوم، فهذا أصبح مكشوف للجميع، وإن كنا لا نزال مختلفين مع أسباب الاعتقال، وفى الماضى، كان التعرض لرئيس الدولة فى مصر مثلاً، يُعاقب عليه بالسجن والتعذيب، واليوم أضحى هذا السلوك من أفعال الماضى، وإن كان لا يزال متواجداً فى بعض الدول العربية الأخرى، وفى الماضى، كانت الأغانى الوطنية، تدمج ما بين الحاكم والوطن، والآن، اختفت تلك الظاهرة فى كثير من البلدان العربية. وفى الماضى كان يُنظر إلى العاملين فى قطاع صيانة حقوق الإنسان، بشكٍ فى نواياهم، بينما اليوم، أضحت كثير من الدول العربية، تملك مجالس "حكومية" لحقوق الإنسان، وإن كانت لا تزال فى بداية عملها، ولم يبدُ بعد شعور بنتائج عملها.
لقد بدأت بعض الدول العربية، وعلى الأخص مصر، فى تبنى الحوار طريقاً، للنظر إلى داخلها، وتخطى أغلب "التابوهات أو المُحرمات"، التى كانت غير قابلة للنقاش، والتى كانت تؤخذ كما هى، مثل الدين والسلطة والجنس. لقد كان الحديث فى تلك الأمور، ضد قيم المجتمعات العربية. ولكن اليوم، أصبح هذا الأمر طبيعيا للغاية. وأصبح مجتمع مثل السعودية مثلاً، قادراً على مناقشة أمور، كان من المستحيل طرحها على الرأى العام. فالسعودية، وهى المملكة الوهابية الشديدة التحفظ الدينى، أصبحت أكثر انفتاحاً، لمناقشة الدين، بشكل يثير الإعجاب والتأييد. بل لقد أُجريت بالسعودية، تعديلات على هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بحيث أُخرج منها، أغلب من كانوا يتسلطون على العباد، واعترف رئيس الهيئة الجديد، الذى كان يعمل فى الديوان الملكى بأن الكثيرين من أعضاء الهيئة كانوا من "المتعصبين جداً وقليلى التعليم وأصحاب السوابق"!! وهذا الأمر، يدل على إعتراف ضمنى بأن الهيئة كانت تسير فى طريق خاطئ فى الماضى!
ولذا فإنا، وفى إطار سياسة التغيير والفكر الجديد، وفى أغلب الدول العربية، نلحظ، أن خطابات التعبير عن هذا التغيير، فيها إدانة غير مباشرة، للماضى، والقوانين الجديدة، ما هى إلا تعبير عن اعترافات ضمنية، فى كثير من الأحيان، على أخطاء الماضى التى لم تُقترف إلا فى عصر نفس القادة المتواجدين فى السلطة حالياً، والمُصدرين لتلك القوانين فى حد ذاتها، ولا يجب أن تكون كل تلك القوانين ذات علاقة مباشرة بحرية المواطنين، ولكن ربما تُصلح أوضاعاً، كانت قد قلبتها فى الماضى، ليصبح الأمر أكثر تعبيراً عن الترتيب الطبقى الطبيعى على الأرض. وعبرت بعض التغييرات الإدارية فى بعض الدول العربية، عن إحداث تغيير ما، عبر فى مكنونه، عن اعتراف بفشل منظومات الماضى، إن تلك التغييرات، تُعبر عن عجلة الديمقراطية، التى بدأت بالدوران، والتى لم يواكبها، وعى شعبى حقيقى على الأرض، لأن من يريدون التغيير الفعلى، لا يفعلون الكثير، وأكثر ما يقومون به، هو الشكوى والكلام الفارغ من الفحوى الخالقة لآليات حقيقية من أجل التغيير! أى أن التغيير الحق، على مدى السنوات الخمس الماضية، جاء بدفع من النُظم العربية بالأساس، ولم يأت من المُعارضة العربية. وكان أكثر التغيير على الأرض، ومن خارج المنظومات الحاكمة، نابعاً بالأساس من منظمات المجتمع المدنى المُحايدة، والتى تمتلك قضية واضحة وتعمل بتركيز فيها، من أجل التغيير، وليس من قبل ما يُسمى بأحزاب المعارضة، رغم أنها فى أغلب ما قامت به، كرست الوضع القائم!
وقد وضح للناس، فى العالم العربى، فى السنوات الأخيرة، أن الرؤية نحو الانفتاح والديمقراطية، ليست واحدة بين كل قاطنى هذا العالم أو فى إطار كل بلد على حدة، فلقد ظهر المُعسكرين التقليديين، لكل معركة للتغيير فى أى مكان فى العالم: المعسكر التقليدى والمعسكر التقدمى، وقوة جذب المعسكر التقليدى، تصبح هنا أقوى بكثير، ما لم يوضح المُعسكر التقدمى، مبررات أقوى يُمكنها أن تُضيف لمصالح الناس، وتبرز جدوى التجديد. فالأمر فى المعسكر التقدمى، يعتمد بالأساس على مدى القُدرة على "الإقناع" حول كيفية القيام بالتحديث، وما يحمله هذا التحديث من فوائد للناس عامةً. فهناك مصالح للتقليدين، لا يريدون فُقدانها، وما لم يستطع المُحدثون والتقدميون، إبراز جدوى التغيير، فإنه سيكون بطيئاً، إن تلك المصالح التى يتمتع بها التقليدون، هى من أبرز معوقات التغيير. فإن التغيير المفاجئ لها، يُمكنه أن يُحدث الفوضى فى المجتمع لأبعد مما نحن فيه اليوم! إنها مسألة إعادة توزيع للقوة فى المجتمع، ولكنها قوة التأثير على العامة، التى "يجب" وأن تكون متقبلة التغيير، وما لم تقبله، وتتعايش معه، فإننا نتكلم وقتها عن استمرار للديكتاتورية، فى المجتمعات العربية، لوقتٍ أطول!
لقد أزالت التكنولوجيا والانفتاح الإعلامى، أيضاً، الميزة التى كان يمتلكها الإسلاميون وحدهم فى الماضي، ضمن من هم خارج السلطة. فالناس، كانت دوماً، ترتاد المساجد ودور العبادة، ومن هناك، كان يحدث الخطاب المؤثر على أغلبية الناس ممن يدينون بالإسلام، من أجل التغيير المتجه بخُطى دينية فقط!! أما الآن، فلقد أصبح هناك الكثير من المنابر للجميع، بحيث أصبح الليبراليون الصامتون فيما قبل 2005، لديهم أصوات مسموعة ومقبولة، أكثر من الإسلاميين، الذين يتلاشون شيئاً فشيئاً ولكن ببطء، نظراً لما سبق وأن قلته هنا، حول حفاظ الكثيرين على الوضع القائم. وأصبحت المواقع على الإنترنت، أمثال الفيس بوك على وجه الأخص وتعليقات القُراء، على المقالات، عامل غاية فى الأهمية، فى مسألة تغيير الوعى الجمعى، للشعوب العربية.
لقد أصبح اتجاه الناس للتغيير مُتجهاً للنظر فى واقع "حياتهم" الدنيوية (دون تنحية للدين) وليس فى واقع "آخرتهم". فالخطاب الدينى، الذى كان أكثر نجاحاً فى عالمنا، كان خطاب "تسكينى" فى أغلبه، خاص بالحديث عن الجنة والنار، وعن عوامل الرضا بالوضع القائم وأهمية الحُكم الدينى، الذى أصبح الناس يلمسون مدى خطورته، لما يتصف القائمون عليه من تقليدية بحتة غير متطورة، وما يفعلونه ويصدرونه من قتاوى، تثير الاشمئزاز فى كثير من الأحيان، مثل فتاوى إرضاع الكبير وبول الأبل، بديلاً عن فتاوى العمل والعلم والسلوكيات المختلفة فى التعامل مع ما هو قائم! لقد أيقن الناس، أن الخطابات الدينية القديمة، هى خطابات "تغيبية"، تريد فقط الكلام المعسول، المتوافق مع "ترضية" الفُقراء، من قبل نُظم الحُكم العتيقة، بعيداً عن الواقع اليومى، الخاص باهتمامهم بدرجة وعيهم وتعليمهم وصحتهم وبيئتهم والمنتجات التى يستخدمونها يومياً!! فبدأ الناس تبتعدون عن الخطاب الدينى القديم، مما أوجد شيوخاً "جُدد" فى الفضائيات، أكثر انفتاحاً، على العالم، يُكلمون الناس، وعلى وجه الأخص، الشباب، حول اليوم الذى يحيونه، وكيفية التعامل معه، وهذا بدوره، جعل الشباب، يتجهون إلى البرامج المدنية على الفضائيات، بعيداً عن البرامج المنغلقة الفكر التى تُخاطب عقول ولى تواجدها فى المجتمع الذى تغيرت صورته كثيراً عن 2005!!
فلقد تغيرت البرامج الحوارية الفضائية، من حيث النوعية، فيما تقوم بمناقشته، وأصبح المواطن يُشاهد أمورا تجعله يستزيد فى الفكر حول طبيعة ما يحيط به من أمور، فطبيعة الشعوب العربية، كما قلت فى مقالى السابق، كانت دائمة التلقى من النُظم، وعديمة المُشاركة السياسية، وأزيد هنا، أن درجة وعى هذا المواطن كانت ومازالت فى كثير من الأحيان، قاصرة، فيما يتعلق بالقراءة، التى تُطلعه على مدى التغيير الحادث على الأرض وتحليل هذا التغيير، فيما يتعلق بقراءة ما مضى، ولذا، دوماً، أؤكد على أهمية القراءة، والمقارنة والتحليل، لأن القراءة والوعى، هما من ضمن أهم عوامل التغيير التى ستنقلنا إلى تغيير أكبر فى المستقبل، ويظهر أيضاً، أن طبيعة المسلسلات والأفلام الجادة، فى العالم العربى، تغيرت تماماً، بحيث أصبح هناك طرح لمواضيع كان من المستحيل طرحها فى الماضى، إلا بنوع من الرمزية، والآن، أصبح الطرح غاية فى المباشرة فى الكثير من الأمور والمواضيع، التى تناقش الحياة اليومية للمواطنين، بدلاً من مناقشة القضايا الثانوية، وظهر هذا فى أفلام الكثير من المخرجين الشباب، فى السنوات الأخيرة. بل إن السعودية، التى ليس لديها صناعة سينما، أنتجت فيلماً، يبدو فيه ثقافة التغيير، حتى لمن لا يرى!
إن التغير الديمقراطى، يحدث بالفعل على الأرض، ولكن الكثير من المعوقات المُتساقطة تقف أمامه. إلا أن هذا التغير، لن يكون سريعاً، إلا بتغير المكونات المختلفة، التى يجب وأن تُصاحب الديمقراطية. أى أن هناك، نوعاً ما من التحول، يجب وأن يُصاحب الديمقراطية، سواء تكلمنا فى شأن التعليم أو التوعية، أو حتى فى رؤية الناس واللاعبين السياسيين المختلفين، للتغيير. فهناك مقاومة للتغيير، تحدث داخل المجتمع ذاته، بحيث أصبحت الحياة الماضية، ما قبل 2005، مُقدسة للكثيريين، الذين يقاومون ربما بأكثر مما تفعل السلطة فى أحيان أخرى.. إلا أن هناك تغيير ملموس على أرض الواقع، يبدو فى الكثير من نواحى حياة المواطن، ولو كان هذا التغيير فى تغير أسلوب الحوار والتفكير. وما يفعله البعض من مقاومة أو مُزايدة، رغبةً منه فى الحصول على مُكتسبات، أصبح من قعل الماضى، إلا فى دول الطوائف والقبائل والحزب الواحد وثقافة الواحد التى ما زالت تُسيطر بعنف، مثلما هو الحال فى سوريا. وبقى أن نؤكد، على أن نزول الناس، ومُشاركتهم فى أعمال التغيير المشروعة، سواء عن طريق الاشتراك فى العملية الانتخابية أو أعمال منظمات المجتمع المدنى المتخصصة أو حتى فى تغيير ثقافة التعامل الأُسرى، بتربية الأطفال على القراءة وحرية الرأي، والإهتمام بالمرأة وتقدم مستواها الثقافى وحصولها على حقوقها، أو بتغيير الشارع أو المنطقة أو المدرسة، بالتعاون مع مجلس الحى أو القائمون على مختلف المؤسسات المحيطة، إنما هو مُشاركة حقيقية من كل فرد منا، على الطريق نحو وعى حقيقى بما يُحيطنا وتقدم تجاه ديمقراطية حقيقية للجميع!
* استاذ علوم سياسية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة