أرفض الهجوم الحاد الذى يتعرض له الدكتور محمد البرادعى من بعض أقطاب الحزب الحاكم العاملين فى المجال الصحفى. فالديمقراطية التى ينادى بها "الفكر الجديد"، وترسيخ فكر احترام الآخر، رغم الاختلاف يستلزم النقد الموضوعى وليس "الردح"، حيث الفرق شاسع بين الأمرين. كما أرفض عدم قبول الرأى الآخر من قبل المعارضة التى تتهم كل رافض للبرادعى أو غير مقتنع به، بكونه عميل للنظام أو منافق ومصقف. فتلك الاتهامات تدل على أن المعارضين المُتهمين غيرهم بالنفاق، ما هم إلا "ديكتاتوريين" فى التكوين، ولا أعرف لماذا لم يصل النظام والمعارضة على حدٍ سواء إلى مرحلة من الوعى، يملى عليهما احترام الرأى الآخر، بعد حوالى 5 سنوات، منذ أن بدأ الحراك السياسى فى مصر. فإن كان الطرفين لم يتغير، فهل من الممكن أن نطالب الناس العادية بالتغيير وانتخاب شخص جديد، من خارج المنظومة الحاكمة، لمنصب رئيس الجمهورية؟!.
إن الدكتور البرادعى، سواءً قبلنا أو لا، هو رجل تكنوقراطى على أعلى درجة من الاحترام والعلم، وهو رجل إدارى راق. كما أنه فخر لكل مصرى على المستوى الدولى. و"المراهقة السياسية"، إن وجد مثل هذا الاصطلاح بالفعل فى السياسة، هى وحدها التى يُمكنها أن تهاجم مثل هذا الرجل، بأسلوب سوقي، لصالح أجندات يؤمن بها القلة من المنتفعين، ولا أقول إنها أجندة حزب بأكمله، ولكنها روح المُزايدة ممن يريد أن يكون ملكى أكثر من الملك!! والغباء السياسى وحده، هو الذى يجعل المعارضة تهاجم كل من هو غير مقتنع بالبرادعى، لأن وجود الرأى والرأى الآخر، هى المعركة الأساسية التى من المفترض أن تطمح المعارضة فى إيجادها فى مصر يوماً بعد يوم.
إن المتابع للقاءات الدكتور البرادعى التلفزيونية سيلاحظ فى التو أن الرجل يتمتع بعلم غزير وثقافة واسعة. كما أنه من الواضح أنه بارع فى التخطيط الإدارى، لأن وظيفته السابقة حتمت عليه ذلك، وتدل صداقاته الدولية ذات القامات العالية على المستوى الذى عاش فيه الرجل، وهو مستوى جداً راق. كما يجب وأن نعترف أن نظرياته وأفكاره السياسية لمصر، غير مسبوقة، على مستوى الطرح العام للجماهير، من قبل من "يراه البعض" كمرشح لرئاسة الجمهورية فى مصر، رغم كون الكثير من تلك الأفكار كانت حبيسة الكتب منذ زمن، وأهمية وجود الدكتور البرادعي، تكمن أيضاً فى كونه تكنوقراط مدني نال أرفع وسام عالمى عن علم وإدارة لإحدى المنظمات الدولية المهمة بالفعل. أما عن عشق الرجل لمصر فهو أمر غير مشكوك فيه وظاهر للغاية لكل من يملك عينين وأذنين. والرجل عبر فى أكثر من مرة أنه يريد الخدمة العامة لمصر والمساعدة فى أى مجال من أجل التغيير، ولقد تبرع الدكتور البرادعى بكل المبلغ الذى تلقاه من جراء حصوله على جائزة نوبل، لصالح دار أيتام فى مصر.
وحيث إننا قلنا بعضاً من ميزات الرجل التى قرأنا عنها أو أدركناها بمشاهدته، فإن علينا أن ننظر فى ما يُعد من السلبيات فيه، من واقع المتابعة. فالدكتور البرادعى هو شخصية هادئة للغاية ليست لديه حمية السياسى ولا كاريزمة. وأنا هنا لا أتكلم عن سياسى مصر، حتى لا يتهمنى البعض بالنفاق أو المقارنة غير الصادقة. فالننظر إلى الرئيس أوباما أو الرئيس ساركوزى أو رئيس الوزراء البريطانى أو التركى، وسنلاحظ الفرق، إن الرجل جدا هادئ وليست له شخصية قيادية. وهنا يجب وأن نعرف أن مصر ليست كوكالة الطاقة الدولية، فوكالة الطاقة الدولية عبارة عن منظومة تمشى بالساعة، وفيها نظام متقن وبها هيراركية إدارية محسوبة ومعاونين على أعلى مستوى لرئيسها، مما تمكنه فى النهاية أن يقود، كإدارى، وليس كقائد. فلا يهم أن كان رئيس المنظمة الدولية قائدا ذا كاريزما مثلاً. فالدكتور بطرس بطرس غالى لم يكن صاحب كاريزما وليس هكذا أيضاً بان كى مون، الأمين العام الحالى للأمم المتحدة. أما رئيس الدولة فيجب وأن يتصف بالكثير من الحسم والحمية والكاريزما فى طريقة كلامه. ولقد لاحظ غيرى قبل أن ألاحظ أنا، تلك السلبية فى الدكتور محمد البرادعي، وقال لي، وتوافقنا عليها.
لقد عاش الدكتور البرادعى أغلب حياته فى خارج مصر، وربما تكون تلك ميزة، فى الكثير من الأحيان، ولكن الرجل لم يعش إلا القليل القليل فى مصر. وهو أمر لا يعد جيد هنا، خاصةً مع خصوصية مشاكل كل شعب. وهنا أيضاً أتفق مع مؤيدى الدكتور البرادعى ومعه فى أن هناك مشاكل ذات طبيعة عالمية، وأنه يمكنه أن يعالجها على هذا الأساس، إلا أن الكثير من مشاكل الموروث الثقافى الذى مرت به مصر منذ حلول ثورة يوليو، تُعد ذات خصوصية بالنسبة لمصر وفى هذا يحتاج الأمر إلى شخصية رئيس يُدرك الشخصية المصرية جيدا ويستطيع التعاطى معها.
ثم إن الدكتور البرادعى قال كلاماً متعارضاً لأبعد درجة فى حديثه مع المذيع عمرو أديب، عندما قال إنه يؤيد حزبا للإخوان المسلمين ويؤيد وصولهم للحكم، وفى الوقت نفسه يؤيد أن يرأس الدولة قبطي، وأنا أؤيد بالطبع رئاسة القبطى مثل المسلم تماماً، ولكن لا أؤيد الحكم الدينى، وأعرف جيدا رؤية الإخوان المسلمين فى رئاسة القبطي، حيث إنهم حتى لو رضى الدكتور البرادعى أن يحكموا مصر بالحديد والنار، لن يقبلوا رئاسة القبطى للجمهورية!! ثم أن الدكتور البرادعى يقدم نفسه على أنه ليبرالى، ولم يتكلم عن الدستور العلماني، المصاحب لكونه ليبرالي. فتركيا التى يعشق المتشددون الحديث والإعجاب بتجربتها، وحُكم حزب العدالة والتنمية فيها، يحدث هذا بها فى ظل دستور علماني. وكان على الدكتور البرادعى أن يقولها بصراحة! أى أنه لا يمانع فى أن يحكم الإخوان المسلمون فى ظل دستور علمانى يحميه الجيش. ففى تلك الحال يكون كلامه مقبول بالطبع!، ولكن يبدو أن الدكتور البرادعى، خاف أن ينطق بالكلمة، وهنا بدأ الدكتور البرادعى أن يلعب سياسة "مصرية" على ما يبدو!!
لقد أخطأ الدكتور البرادعى ثانى خطأ سياسى، بعد حديثه مع السيد عمرو أديب، حول حكم الإخوان، عندما تلقفته حركة كفاية التى يتكون أغلب قياديها من الناصريين بينما الدكتور البرادعى ليبرالى. لقد أُطلقت الحرية لحركة كفاية فى الشارع المصرى منذ العام 2005، حتى تعمل "كفزاعة" للأمريكان، لأن القائمين على الحركة من الراديكاليين، واليوم تنسق الحركة بالإضافة إلى من يقف ضد التوريث من راديكاليين ناصريين آخرين مع الدكتور البرادعى فى الخندق نفسه، على ما يبدو أو على الأقل وفقاً لما يقولون. وهذا فى حد ذاته هو تغيير للخط الليبرالى الذى يمضى عليه الدكتور البرادعى ولا يملك أن يقول إنه لا يعرف، لأن تلك سياسة وليست إدارة منظمة دولية. إن السياسة فى تحالفاتها لا يمكن أن تجمع بين المتنافرين إلى أبعد حد، وقت الانتخابات. فتحالف الليبرالى مع المتشدد الدينى مثلما فعل الدكتور أيمن نور يوماً، خطأ سياسى قاتل. وهو أيضاً خطأ سياسى قاتل أن يتحالف الليبرالى مع الراديكالى.
ويتهم الذين يؤيدون الدكتور البرادعى، من يعارضونه، أو من يرى عدم عقلانية ترشحه، بأنهم محبطون للمصريين، وهم بذلك لا يقرءون الساحة السياسية جيداً، ويحلمون فقط، فى ظل حثهم "الديكتاتورى"، على أن يقبل الجميع بالبرادعى، وهو الأمر غير الممكن، حيث إن الله نفسه، لم يؤمن به الجميع، فمن يكون الدكتور البرادعى بالمقارنة، وله كل الاحترام.
إن من يرى أن الدكتور البرادعى لا يصلح لرئاسة مصر، لا يكره الدكتور البرادعى، وليس بالضرورة ينتمى للحزب الوطنى. ومن يرى مثل هذا، فانما يبسط الأمور تبسيطاً مُخل، ويحض على الديكتاورية الفكرية من نواحى المعارضة. يمكن أن أكون فخوراً بالدكتور البرادعى، إلا أننى لا أقتنع به كرئيس. ولكن بالتأكيد، أقتنع بالدكتور البرادعى، كرئيس جامعة مثل أحمد لطفى السيد، الذى رفض الرئاسة يوماً، لأنه رجل فكر ويعد اليوم أبو الليبرالية المصرية. كما أتمنى أن أرى الدكتور البرادعى يؤسس على سبيل المثال لا الحصر، مركز أبحاث على أعلى مستوى يعمل فى إثراء الساحة المصرية فى مجال تنمية مصر وأخذها على الطريق نحو الديمقراطية. وأعتقد وفقا لمُعطى أسلوب الدكتور البرادعى وطبيعة شخصيته، أنه سينجح فى إقامة مركز أبحاث دولى، على أعلى مستوى فى مصر. إلا أننى أشك كثيراً فى أنه يمكنه أن ينجح كرئيس، كما يشك هو شخصياً، كما بدا فى مُجمل أحاديثه.
كلمة أخيرة:
هناك دولاً كثيرة حلت فيها الديمقراطية، ورحب بها الناس، ولكن بعد فترة من التجربة الديمقراطية، تجد الناس يتباكون على الديكتاتوريين السابقين، رغم أنهم كانوا ضدهم على طول الخط. كان هذا بسبب ضعف النظام الديمقراطى الذى جاء بعد حكم ديكتاتورى تعس. فكانت الديمقراطية بعد ذلك أكثر تعاسة.
إن الإصلاح ليس بالسهولة التى يتصورها الكثيرون. إن الحرب أسهل من السلام. فمعارك التنمية أصعب بكثير من معارك الهدم، ولذا تجد الراديكاليين وبالذات من المتشددين الدينيين، يتكلمون دوما عن الحرب والجهاد، لأنهم لا يملكون عقولاً للبناء. وبعد الانتصارت، يتحاربون معاً. فهل هذا مصير نريده لمصر؟.
ستأتى الديمقراطية آجلاً أو عاجلاً إلى مصر وستكون تجربة الدكتور البرادعى ثرية للغاية للحراك السياسى فى مصر، ولكن الدكتور البرادعى لن يأتى كرئيس، لأننا لا نملك ديمقراطية بعد، ولأن سكان مصر فى القرى والنجوع، بعيداً عن الصفوة، مازالوا يملكون الكثير من المصالح مع الحزب الوطنى. كما أن بديهية الانتخابات النزيهة التى تكلم عنها الدكتور البرادعى، لا يزال فيها شكُ كبير!
• أستاذ علوم سياسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة