فى إحدى الدوائر الانتخابية، كنت أتابع النتيجة أمام لجنة الفرز، وكانت الساحة المواجهة للمكان مقسمة بين أنصار الطرفين المتنافسين على مقعد الفئات لعضوية مجلس الشعب، تأملت المشهد على الناحيتين، فوجدت الوجوه نفس الوجوه، فقراء كأعواد القمح تأكلهم الأمراض، لا يصلبون طولهم من كثرة الوقوف والهتاف وقلق الانتظار والرغبة العدمية فى فوز مرشحهم، بعضهم يسند ظهره إلى الحوائط وجذوع الشجر، والبعض يجلس أرضا يثرثر مكدوداً مع أقرانه، أو يحتسى الشاى الأسود، بعد أن تحولت الساحة إلى هايدبارك تجارى يبيع كل شىء لهؤلاء المنتظرين بعد منتصف الليل.
وفجأة توقفت ناحية اليمين سيارة فارهة سوداء مسدولة الستائر، نزل منها المرشح الأول، يزهو كطاووس، فتزاحم حوله أنصاره يهتفون باسمه وهو يرفع يده بعلامة النصر، كان الرجل يبدو وسطهم ككائن فضائى هبط فوراً إلى الأرض، فلا قامته ولا وجهه ولا محيط جسده يمتون بصلة للكائنات التى تحلقت حوله، وظلت تزعق باسمه: بالروح بالدم نفديك يا فلان.
وما هى إلا لحظات وتوقفت فى الناحية الأخرى عربة فارهة أخرى من ماركة لا يركبها إلا الملوك والأمراء، ونزل منها المرشح الآخر والذى يكاد يكون الأخ التوأم للمرشح الأول من حيث رغد النعمة البادى على وجهه وملامحه وعلى محيطه وارتفاعه، فكان أشبه بالديك الرومى، وفى محاولة للمنافسة رفع الرجل يده بعلامة النصر فى مواجهة الفريق الآخر، وهنا اشتد زئير أنصاره بنفس الهتاف: بالروح بالدم نفديك يا فلان!!
وفى هذه اللحظات شعرت بالدوار وكدت أصاب بالأغماء بعد أن تداخل الهتاف الأول والثانى، فضاعت الأسماء، وتماهت ملامح الفريقين، وبدا لى أن المرشحين الاثنين صعدا على أكتاف المظاهرة، تحملهم المناكب المثقلة والمتعبة؛ لتؤكد حقيقة التضحية بالروح والدم من أجلهما..
أقسم لكم إن هذا المشهد الحقيقى لخص لى ساعتها زيف عملية المشاركة السياسية، وزيف الصناديق الزجاجية والإشراف القضائى وكل الضمانات القانونية والدستورية.. بمعنى ما جدوى كل ذلك إذا كان الأمر فى النهاية سيؤول إلى هذا السيناريو الهزلي، وبدا السؤال فلسفياً ومعقداً: لماذا يضحى هؤلاء المساكين بالروح والدم، وهم يعيشون ببقايا روح وبقايا دم، من أجل أشخاص احتكروا أخذ الأرواح وشفط الدماء؟.. المهم أننى انسحبت من الموقعة؛ لأنه لم يعد يهمنى من الفائز فى المرشحين لأن المؤكد أن المواطنين فى كلتا الحالتين مهزومون.
..لا أريد التعليق الآن على معركة الرئاسة فى مصر، لكن لا أدرى لماذا استدعت ذاكرتى هذا المشهد القديم، وأنا أتابع بحب استقبال المصريين المخلصين للمخلص محمد البرادعى.