عاشق العقارب الذى حطمته الصين

وديع الساعاتى.. قل للزمان ارجع يا زمان

السبت، 20 فبراير 2010 03:07 م
وديع الساعاتى.. قل للزمان ارجع يا زمان وديع الساعاتى فى دكانه الصغير
كتب أيمن حامد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن يتخيل أن رحلته فى عالم الساعات التى امتدت لنصف قرن سيطرأ عليها كل هذا التحول.. أن يجلس فى دكانه الصغير كى ينشغل بإصلاح ساعة صينية الصنع رخيصة الثمن، وهو الذى عاش أجمل لحظات عمره المهنى مع عالم الساعات السويسرية الشهيرة، واحتضنت يداه أرقى الماركات العالمية.

رفع العم وديع ظهره المحنى واعتدل فى جلسته بعدما رفع عينيه المنهكتين عن ساعة معطوبة قائلا "المهنة تغيرت وأصبحت مهددة بالانقراض بعد دخول التكنولوجيا عالم الساعات، لم يعد هناك من يرغب فى اقتناء تحفة سويسرية أصيلة إلا القليل، معظم الناس صاروا يفضلون اليوم إما ساعة رقمية خفيفة أو صينية رخيصة الثمن.. وهذا هو الحال اليوم".

مهنة الساعاتى فى مصر شأنها شأن كثير من الحرف المرتبطة بالماضى تواجه شبح الاندثار والانزواء أمام طوفان المنتجات الصينية التى غزت السوق المصرى فى السنوات الأخيرة، فبعد أن كانت الدكاكين الخاصة بإصلاح الساعات تنتشر فى المدن وحتى القرى المصرية، أصبح من النادر هذه الأيام رؤية لافتة الساعاتى كما كان فى السابق.

فى دكانه الصغير القابع فى حى البساتين المكتظ زبائنه يعرفهم، فهم إما العجائز الذين ترتبط ساعاتهم القديمة بذكريات عن هدية من شخص عزيز أو مناسبة سعيدة، أو شريحة الشباب الذين يرغبون فى لف ساعة براقة حول معصمهم رغم أن ثمنها لا يتعدى العشرة جنيهات.

يتابع عم قائلا " الساعات الصينية الرخيصة ملأت الدنيا، منظرها من الخارج جميل ومغرى وبراق لكن جوهرها سىء ورخيص وخال من الروح مثل كثير من البشر".

هكذا يفلسف رؤيته للساعات البراقة المزيفة التى قلبت حياته رأسا على عقب، لكنه يشرح على الفور السبب فى أن " ثمنها هذه الأيام أصبح يقدر بعشرة جنيهات فقط وعندما يأتى زبون لإصلاحها وهى بالطبع سريعة العطب لأن مكوناتها الداخلية رخيصة الثمن، وأقول له إن إصلاحها سيتكلف خمسة جنيهات، يضحك الزبون قائلا إنه سيضع خمسة جنيهات أخرى ويشترى واحدة أخرى جديدة، وعندما يوافق أحدهم على مضض، أقوم بإصلاحها لكن بلا مزاج، والأمر ليس إصلاحا فى حد ذاته بل هو استبدال قطعة بقطعة أخرى إلى حين، بينما الساعة الرقمية لا تحتاج إلى ساعاتى بل إلى كهربائى".

لكن فى المقابل لا يزال وديع يثمن محاولات البعض فى اقتناء ساعة سويسرية حقيقية، معتبراً ذلك اعتزازا بالأصالة واستدعاءً للزمن الجميل، عندما تأتيه الآن مثل تلك الساعة يفرح مثل طفل ويحترم صاحبها كثيرا، إذ يرى أن الساعة فى أحيان كثيرة هى عنوان الرجل التى يمكن من خلالها معرفة ذوقه وطبيعة شخصيته، لكن فى أحيان أخرى تكون خادعة على حد قوله.

وديع الذى كان دائم الهروب من المدرسة الابتدائية كى يذهب إلى دكان خاله الساعاتى فى إحدى قرى الفيوم تعلم المهنة مبكرا وسافر فى صدر شبابه إلى القاهرة كى يزاولها.."جئت وعملت صبيا فى إحدى المحال الشهيرة فى منطقة العتبة منبع الساعات فى مصر، شاهدت الباشاوات والبهوات المحترمين وهم يأتون لإصلاح ساعاتهم الفخمة، كانت الساعة وقتها حكرا على الأثرياء وأبناء الطبقة الوسطى، وكنت أكسب عشرة جنيهات فى الشهر فقط، لكن الحياة كانت جميلة".

فتح وديع دكانه الخاص به قبل ثلاثين عاما وسط منافسة حامية وعدة دكاكين متجاورة انتهت الآن إلى أن أصبح دكانه هو الوحيد الباقى فى منطقته المزدحمة وربما إلى حين.

بعد محادثة قصيرة من زبون حول ساعة معطوبة انتهت بفشل الاتفاق حول السعر يعلق وديع "اتفضل يا سيدى".. هذا هو زبون اليوم الذى أصبح وجود الساعة فى حياته أوتوماتيكى وجامد، لكن الساعة فى الماضى – والكلام لوديع - كانت فى نظر صاحبها تحفة فنية يتعامل معها بحب ورفق كما لو كانت امرأة جميلة.

عمله فى المحلات الكبيرة سمح له بالتعامل مع كل ماركات الساعات الشهيرة" أوميجا" و"رولكس" و"جوفيال" وغيرها، كانت الساعة حينئذ مصدر متعته، إذ كان إصلاحها بمثابة تحدٍ يومى يعيشه عاشق العقارب، الانشغال بالتروس والآلات الدقيقة، الفك والتركيب والتنظيف، وبعدها تعاود الساعة السير فيقفز قلبه من الفرح.

يعيش وديع حياته بالساعة، يقدس الوقت رغما عنه فكل شيء بميعاد، ويكره من لا يحترم مواعيده كراهيته للساعات الصينية. ولا يطيق -رغم كل شىء- الابتعاد عن دكانه الصغير، فحتى الأعياد ومواسم الأجازات يفضل قضائها وسط ساعاته المتناثرة فى أدراج أمامه وتلك المعلقة على جدران دكانه.

مكسبه اليوم لم يعد مثل السابق، كان العمل فى الماضى منتعشا ودورته لا تكاد تنتهى، لكن الآن صار ما يكسبه الساعاتى العجوز من إصلاح الساعات ينفق معظمه على شراء المسكنات لعموده الفقرى المتعب لكنه يقبل يده بخشوع "الحمد لله على كل شىء.. رضا".

ورغم أن ابنه الوحيد تخرج قبل سنوات من معهد للإلكترونيات فى القاهرة، إلا أنه رفض على ما يبدو أن يعيش فى جلباب أبيه، مفضلا انتظار فرصة عمل مناسبة على الجلوس فى دكان صغير ومناكفة زبائن يتشاجرون حول إصلاح ساعة لا يتعدى ثمنها العشرة جنيهات!

لكن وديع فى النهاية لم يفقد الأمل فى عودة الأصالة والذوق الرفيع لمهنته واستعادة الساعة السويسرية لمكانتها، معتبرا أن الغزو الصينى بمنتجاته الرخيصة سيزول لا محالة لأنه فى النهاية وبحسب تعبيره "لا يصح إلا الصحيح".








مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة