النخبة تفكر والشعب يعانى والنظام يجتهد ليقطع كل اتصال.
تعتمد مؤامرة قطع خطوط الاتصال على مجموعة التبرير المرفوض من كل عاقل وهو قدرة النظام الحاكم وحده على تحمل مسئولية الحفاظ على مصر من الأخطار دون سواه، أما الآخرون فهم مغامرون أو طامعون لا حق لهم. هذا إذا قبلنا أن هناك تبريرا، ولكن الأخطر هى جماعة المنتفعين التى ينتفخ بها النظام الحاكم والتى تبدع ليل نهار لمنع أى تغيير خارج المشيئة الرئاسية، لعل ذلك يجلب رضا الرئاسة ومنافعها.
تشترك المجموعتان فى الهدف نفسه ويشاركهما جهاز الأمن طبقا لوظيفته المبدئية سواء أقتنع أم لا. هذا الهدف السامى هو قطع أى خطوط اتصال أساسية بين النخب الفكرية المصرية التى من الطبيعى أن تطرح أفكار التغيير وبين الشعب. تشمل المؤامرة عدة محاور، أولها السيطرة على وسائل الإعلام بطريقة مباشرة، كما يحدث مع القنوات الأرضية للتليفزيون التى تدخل كل بيت، بالإضافة للصحف الحكومية والهدف منع كل من يوصف بمعارض من الظهور أمام الشعب لعرض أفكاره بحرية، بالإضافة للسيطرة بطريق غير مباشر، كما يحدث مع الإعلام الخاص، وذلك بوضع سقف للحرية يتعرض من يخرقه للتهديد السافر، مما يدعو الجميع للرقابة الذاتية طلبا للنجاة.
ثانى المحاور هو المنع المشدد لأى لقاءات جماهيرية فى أماكن عامة سواء طلب حزب أو شخصيات عامة، والمعنى مفهوم وهو منع وصول النخبة للجماهير، لأن المكان الخاص يضيق دائما باحتياجات أى مناسبة، والمكان العام يحتاج لتصريح ويا ويله من يتغاضى عن ذلك. يؤدى هذا المحور هدفه بنجاح تام، فالمكان الخاص لا يسع إلا عشرات على أقصى تقدير وتصريح المكان العام لا يصدر غالبا، وكل مسئول فى هذه الأماكن يؤثر سلامته، ويتحاشى غضب جهاز الأمن فيتهرب من أى تعامل فى هذا الشأن.
ثالث المحاور وهو بمثابة هدية تلقائية لمناعة النظام الحاكم ألا وهو تقلص عادة قراءة الصحف لدى المصريين فى العموم، وذلك بسبب الميزانية المكلفة لذلك أو لكونهم من الأميين أو المطحونين فى سبيل لقمة العيش أو لمجرد اليأس من أى تغيير. فليكتب المفكرون ما شاءوا أن يكتبوا فلن يقرؤه إلا بضع مئات من آلاف من المصريين على أقصى تقدير وتبقى الملايين بمعزل.
رابع المحاور هو المنع الشامل لأى شخصية عامة مصرية من أى فرصة لعرض أفكارها على نطاق يشمل الجماهير المصرية بغرض اكتساب المصداقية لديها. كانت النتيجة التراكمية لهذا هو فقدان الشعب للثقة سواء فى نظام الحكم أو فى الناشطين من أجل التغيير، وأصبح شعبا بمعزل عن أى بوصلة سياسية يعيش فى أغلبية من أجل يومه بدون أن تمكنه ظروفه من الانشغال بمستقبل مصر.
المحور الأخير والأهم وهو القبضة الأمنية التى يؤيدها قانون الطوارئ وباقى القوانين المقيدة للحريات التى تمررها كل يوم الأغلبية الساحقة بمجلس الشعب والتى تتلقى الأوامر من رموز النظام الحاكم من أجل مزيد من أحكام القبضة كل يوم. المضحك المبكى أننا كلنا نعلم وسائل صنع هذه الأغلبية الساحقة، وكلنا نعلم أن تعديل المادة 88 من الدستور التى تم بها رفع أى إشراف قضائى حقيقى على الانتخابات من أجل استمرار هذه الأغلبية الساحقة بدون مشاكل. ولدت تلك القبضة الأمنية شعورا عاما بعدم الاستعداد لأى مشاركة من جانب الشعب إيثارا للسلامة وصيانة الكرامة، وأكل العيش واتقاء للمشاكل.
هكذا نجح النظام الحاكم فى مصر بالقانون والدستور، واستغلال معاناة الشعب وغريزته الإنسانية فى ابتغاء السلامة فى قطع أى خطوط اتصال بين النخبة والشعب، وقطع الطريق على أى تغيير خارج المشيئة الرئاسية، واعتمد على ديمقراطية صورية تسمح للنخبة الساعية من أجل الإصلاح والديمقراطية بإطلاق صوتها الذى لا يصل والحركة التى لا تبارح مكان الوقوف. لقد اكتملت منظومة السيطرة وأغلقت حلقة الحصار بإتقان، ولكن يبقى المؤمنون بالحرية خارجها، ويبقى دائما صنع الله أقوى من أى منظومة.
أين مصر من كل هذا. النتيجة نراها جميعا أمام أعيننا.
* أستاذ بطب القاهرة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة