هناك اعتقاد سائد فى أن أديبنا الكبير نجيب محفوظ صب جل اهتمامه على الطبقة الوسطى، التى انتمى إليها، ونسج على ضفافها أغلب أعماله الإبداعية الرائعة، من قصص وروايات، واقعية ورومانسية، نابتة من هذه الأرض وذلك المجتمع، أو متخيلة، تنحت عالماً موازياً، لم يمر يوماً على الدنيا، لكن من يمعن النظر فيما كتبه محفوظ يكتشف أن الرجل أعطى الطبقة الدنيا وزناً كبيراً من انشغاله، ومن سطور أعماله، ليس فقط فى عالم "الحرافيش" الذين يعانون من سطوة الفتوات وتجبرهم، أو عالم الفقر المدقع الذى تصوره رواية "بداية ونهاية"، بل أيضاً بالنسبة للمهمشين، الذين يقطنون على أطراف المدن، فى أحياء عشوائية، تعج بالفوضى والبؤس.
وهناك رواية رسم فيها محفوظ ملامح الأحياء العشوائية، التى باتت تشغل بال العديد من الأدباء مع مطلع القرن الحادى والعشرين، وهى رواية "قلب الليل"، ثم زاد عليها بما ورد فى إحدى قصص مجموعته "القرار الأخير"، التى نشرها عقب حصوله على جائرة نوبل فى الآداب عام 1988، ففى روايته هذه تطالعنا شخصية "جعفر الراوى" التى تأخذنا أشواقه ومشاعره إلى "عشش الترجمان" على طرف القاهرة، بعد أن أحب، وهو سليل العائلة العريقة ذات الجاه والصيت والمال، مروانة، التى ترعى الغنم مع والدتها، وتنتمى إلى طائفة "الغجر"، وتعيش فى مكان بائس يصفه السارد فى ثنايا الرواية بـ"معسكر الشياطين" مرة و"معسكر المتشردين" مرة أخرى.
وخلال رحلة الراوى إلى هذا المكان لا يهتم محفوظ كثيراً بمعالمه، بل يركز على سلوكيات وتصرفات سكان المناطق العشوائية، فيصفهم على لسان محمد شكرون، الصديق المخلص لجعفر الراوى، بقوله: "أولئك الناس مع كل شر إلا الذى يسيل لعابك عليه"، ويقصد أنهم مستعدون أن يفعلوا كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن إلا التفريط فى شرف بناتهم. وقد دفع هذا الراوى إلى أن يقصد عشش الترجمان ليطلب يد مروانة من قريب لها.
وهنا يبين محفوظ جانباً آخر من سلوكيات هؤلاء الناس وحرفتهم التى يعيشون منها، حين يسرد على لسان شكرون قوله "كنا أول غريبين يشقان سبيلهما فى عشش الترجمان نهاراً دون أن يتعرضا للموت، حدقت فينا أعين شريرة باستطلاع ساخر وتحد، وتوقفت الحركة دقيقة، حركة تدريب القرود وجز الغنم ووزن المخدرات وجلاء الأدوات المسروقة ودق الطبول، وتجمع حولنا نفر من الغلمان، وراحوا يحيون الشيخ جعفر قائلين: شد العمة شد، تحت العمة قرد".
وما سبق يبين هامشية الحرف التى يمتهنها هؤلاء، وتعارض بعضها مع القانون، وخطره على المجتمع، بقدر ما يظهر سوء سلوكهم حيال الغريب، وبالطبع إزاء بعضهم البعض. ولا تقتصر هذه البذاءة على الصغار، بل إن الكبار أيضا يوصمون بها، وهو ما نكتشفه من الحوار الذى دار بين شكرون والرجل قريب مروانة:
"ومضينا إلى العجوز الجالس أمام كوخه، وأم مروانة واقفة بين يديه، وتصافحنا وكان طاعنا فى السن حتى الموت، فقالت أم مروانة نيابة عنه:
ـ إنه يرحب بكما.
فقال العجوز يخاطبها بعد أن لكمها فى ظهرها:
ـ لأنك أنت توافقين، عليك اللعنة..
فقال محمد شكرون:
ـ صاحبى من أصل كريم.
فبصق العجوز قائلا:
ـ طظ.
فقال محمد شكرون محرجا:
ـ وهو يعمل...
ولكن العجوز قاطعة:
ـ لا يهمنا العمل أيضا!
ـ أخلاقه...
فقاطعه العجوز:
ـ ولا تهمنا الأخلاق!
فقال شكرون وهو يتحلى بمزيد من الصبر:
ـ بكل إيجاز نريد كريمتكم على سنة الله ورسوله.
فضحك العجوز عن فم خال تماما وقال:
ـ مع ألف سلامة.. تكلم عن المهر.
ـ تكلم أنت .. فأنت كبيرنا.
فانتفخ العجوز قائلا:
ـ عشرة جنيهات فى يدى هذه.
وبسط يده، فتحركت أم مروانة حركة غامضة، فقطب العجوز قائلا:
ـ لنقرأ الفاتحة..
وانطلقت من حولنا الزغاريد".
وفى موضع آخر من الرواية يبين السارد على لسان جعفر كيف استمر هذا الفحش فى القول والفعل معه، بعد زواجه من مروانة، فهاهو يقول: "وتسحبنى من يدى لزيارة أمها وقريبها العجوز فى معسكر الشياطين، ليضحك المخرف ويقول لى:
ـ ألم يكن من الأفضل أن تعمل إماما لجامع؟
أو يبارك بطن زوجتى قائلا للجنين:
ـ شرفنا وكن قاتلا، فقد ضقنا باللصوص والمهربين!
ويسخر من أصلى الكريم قائلا:
ـ من جدك الراوي؟ أنا جدك الحقيقى، واهبك هذه المرأة الجميلة، التى تمتص قذائف غرائزك الشريرة".
وهذا الفحش الأخلاقى والفوضى السلوكية امتدت إلى مروانة ذاتها، وانتقلت معها إلى عالمها الجديد، بعد أن اكترى جعفر لها شقة جديدة مجهزة بالخرنفش، هى فى كل الأحوال أفضل بكثير من العشش والأكواخ التى كانت تعيش فيها، ثم عمل منشدا فى جوقة شكرون، وهى مهنة أفضل وأرقى من كثير من المهن التى يعمل بها أهلها، فها هو جعفر يصفها قائلا:"مروانة لا تحسن تنظيف الشقة، ولا طهى الطعام، وتمضى حافية نصف عارية منتفشة الشعر، تتحدى الخيال وتناقر الهواء". ثم يصفها فى موضع آخر بأنها "إذا تجردت من رمز الإثارة الجنونية، فإنما تتمخض عن لا شىء البتة، أو تتمخض عن ذئبة"، وأنها "مجرد إثارة، ليست امرأة، لا هى ربة بيت، ولا هى أم، ولا هى سيدة بالمعنى، وصفاتها الجوهرية خليقة بأن تخلق منها رجلا، بل قاطع طريق". ويفصل هذا الرأى فى موضع ثان الرواية حين يقول عنها: "إذا غضبت حطمت ما بين يديها، مزقت ملابسي، طوحت بكراسة الأغانى والتواشيح من النافذة، التحمت معى فى عراك، وأصيح بها:
ـ إنك أبغض إلى من الموت.
فتصيح بى:
ـ إنك أبغض من القيح.
وفى موضع ثالث يزيد فى وصف شراستها فيقول إنها "قوية متحدية سليطة اللسان طويلة اليد، كأنما خلقت لتقاتل".
وفى نظر السارد فإن عالم العشوائيات يبدو غريبا مستهجنا ومنبوذا بالنسبة لمن يعيشون خارجه، مثلما بان على شكرون حين اشمئز من الحوار الذى دار مع كبير سكان عشش الترجمان، لكنه آثر الصمت حتى لا يغضب صاحبه "لم يعلق محمد شكرون بكلمة احتراما لعواطفي"، إلا أن هذا العالم يظل أليفا حبيبا بالنسبة لأهله، فمروانة "معتزة بنفسها وبقومها، تكاد تسبغ قداسة على التراب الذى منه جاءت كوردة برية"، وهاهى تقول لجعفر: "لا يوجد رجال خارج عشش الترجمان".
لكن محفوظ انتقل فى إحدى قصص مجموعة "القرار الأخير" إلى مستوى آخر من الحديث عن العشوائيات، انصبت هذه المرة على وصف المكان إلى جانب عرض السلوك والتصرفات. ففى قصة "المهد" يصف محفوظ أولاد الشوارع على لسان بطل القصة، وهو طفل، وصفا لا يختلف عما ورد فى الرواية السابقة، إذ يرى أن "خرقهم للتقاليد المرعية فلا حدود له، يرددون الأغانى الفاحشة، فنشعر بالفطرة أنها ترشح من يحفظها للنار وبئس القرار". لكن بطل القصة يمنحهم صفات إيجابية، لم ترد فى الرواية، إذ يصفهم بأنهم "على قدر كبير من خفة الروح" ثم يقول "ويوم يمر دون لقاء مع أولئك أو هؤلاء لا يحسب من العمر".
وعلى خلاف وصف العشوائيات من الخارج فى "قلب الليل" يلج محفوظ إلى داخلها لكن بتحسب شديد وعلى استحياء، فهاهو يصف منظر أولاد الشوارع بأن أسمالهم بالية وأقدامهم حافية، ويصف بيت يقع فى حى عشوائي، ويعد حالة لترييف المدينة، بقوله: "وسط البيت مملكة تنعم بحرية مطلقة. سقفه سماء الفصول الأربعة بألوانها المتباينة. وفى الأفق قباب عديدة ومآذن مفردة ومزدوجة، تستوى بينها مئذنة الحسين كالعروس بقدها الممشوق المنطلق. الكتاكيت تتجمع وتتلاصق تحت الشعاع كأنها خميلة متكاملة الألوان. نقيق الدجاج يترامى من وراء الباب الخشب. رءوس الأرانب تبرز من أفواه البلاليص المائلة. وأنت تجمع البيض فى حجر جلبابك، وتقدم أعواد البرسيم للأرانب، وترمى الحب للكتاكيت".
وكل الاستشهادات السابق ذكرها تبرهن على أن محفوظ لم يهمل تناول حياة "سكان المناطق العشوائية" فى أدبه، لكنها ليست كافية بأى حال من الأحول لتثبت أن هذا العالم الهامشي، كان يحتل موقعا متقدما من اهتمام أديبنا العربى الكبير. فمحفوظ ظل فى أغلب أعماله مخلصا للقاهرة الأولى، قبل أن تتريف وتحط الأحياء العشوائية على جنباتها، أو تمتد على شكل زوائد دودية فى جسد بعض أحيائها العريقة والجديدة الغنية، لتدل على تناقض طبقى صارخ، وانقسام اجتماعى حاد، تعيشه مصر فى الوقت الراهن، بعد انهيار الطبقة الوسطى، التى أخلص لها محفوظ، ومنحها سمعه وبصره وقلمه، فرسم ملامحها، وفاض فى عرض تفاصيل حياتها ببراعة شديدة، كان مردها الأساسى انتماء محفوظ إليها، ومعرفته التامة بها، وبطرائق معيشتها.
أما الأحياء العشوائية فقد نمت فى وقت كانت فيه صحة محفوظ تتراجع، واهتماماته الاجتماعية تنخفض إلى الحد البسيط الذى سمح له به سنه المتقدم، وشيخوخته الضعيفة. فلما باتت هذه الأحياء الهامشية ظاهرة تقتحم العين اقتحاما، وتحتل حيزا كبيرا من انشغال علماء الاجتماع والسياسة، ومن تفكير صانعو القرار ومتخذيه بعد الربط بين "التهميش" و"الإرهاب" أخذ الأدب يلتفت إليها بشدة، ويكتب عنها باتساع، ويروى حكايات من قلبها، تحمل قدرا هائلا من الصدق الفنى والواقعية.
أما محفوظ فلم يعايش سكان المقابر أو يتجول فى العشوائيات، حيث الأكواخ وعزب الصفيح والشوارع المختنقة والبشر المتعبين البائسين، ومن ثم فلم يفلح فى تصويرها على وجه دقيق، بل وقف على تخومها، وبنى معلوماته عنها إما من السماع أو القراءة العابرة. وذلك على العكس مما فعل مع الطبقات الدنيا فى المدينة خلال رواية "بداية ونهاية" فقد راح محفوظ يصف حال أبطالها الفقراء، ويعرض تفاصيل حياتهم ومعيشتهم، فى المأكل والمشرب والملبس والمأوى، وشكل الأثاث ونوعه، فنجح بذلك فى تحقيق كل ما يطلبه "المكان" من الروائي، إذ إن وصف الأمكنة لا يتأتى على وجهه الأكمل من دون ربطه بمكوناته، أو بالأشياء التى تلتصق به، وتشكل جزءا أصيلا منه.
وفى هذه الناحية كان إبداع محفوظ عن العشوائية، سكنا وسلوكا، إبداعا باهتا، ليس على المستوى الكم فحسب، بل أيضا على مستوى الكيف. فمحفوظ رأى هذه الأحياء وسكانها من الخارج، خاصة فى "قلب الليل" التى تتسم الشخصيات العشوائية فيها بالنمطية، وتتصف بالقبح الشديد، أو "الشر الخالص"، المتمثل فى فحش القول والتصرف، وانهيار القيم وغياب التقاليد المتوافق التى ارتضتها الجماعة العادية والسوية وتوافقت عليها. فحتى الشيء الذى أعجب بطل الرواية جعفر الراوى فى مروانة ارتبط أساسا بإمكاناتها الجسدية، فهى فى نظره "فاتنة بفطرتها، كلسان من لهب" و"تتدفق منها الفتنة والسحر والتحدي". وهذه الإمكانات تحولت فى نظر الراوى إلى طاقة شر، لأنها جعلته يستسلم فى رحابها كاشفا عن ضعفه بقوة وعنف، يجرى كمطارد أو مجنون فاقد الوعي، وهنا يقول لشكرون: "إنى ضحية الشهوة العمياء".
إن هذا الصوت الخافت لسكان العشوائيات فى أدب نجيب محفوظ لا ينبع من تعمد الرجل إهمالهم، أو التعالى عليهم، فهم فى خاتمة المطاف ينتمون إلى عالم "الحرافيش" الذى شيد محفوظ الجزء الكبير من أدبه على أحلامهم وأشواقهم إلى العدالة، إنما ينبع من عدم إلمامه الكاف بهذه الدنيا الجديدة، التى طفحت وفاحت رائحتها فى وقت كان فيه محفوظ يكاد أن يشرف على إنهاء مشروعه الروائي، بعد حصوله على جائزة نوبل وهو فى ابن السابعة والسبعين عاما، خاصة بعد توعك قدرته على الكتابة إثر محاولة اغتياله عام 1994.
وفى ظنى فإن الظروف لو كانت قد أتاحت لمحفوظ أن يلج إلى هذا العالم المتوحش، الغارق فى البؤس والفوضي، فمن المحتم أنه كان سيسلط عليه ضوء مبهر فى رواياته وقصصه الأخيرة، فى ظل رغبته المتجددة فى أن يواكب تطورات عصره، ويهتم بالتغيرات الاجتماعية والتحولات الطبقية، وهو ما بان من تعليقه على قصة "الحب فوق هضبة الهرم" التى عالجت مشكلات الشباب الجديد فى الحصول على عمل مناسب وسكن وتجهيز بيت الزوجية.
• روائى وباحث فى علم الاجتماع السياسى