صباح السادس من أكتوبر 1973 كنت فى الصف السادس الابتدائى بمدرسة الوعى القومى الابتدائية بالمحلة الكبرى، استيقظنا من نومنا صباح هذا اليوم على رنين الهاتف، بخبر رحيل جدى والد أمى عن الحياة، سافرنا إلى المنصورة لتشييعه، وبينما نواريه الثرى حلقت طائرات عديدة فوق سماء المنصورة.. كان نشاط الطائرات العسكرية كبيرا، لفت انتباه المشاركين فى الجنازة، لكن أحداً من الحضور لم يتصور أو يتخيل أن هذه الطائرات فى طريقها لكتابة تاريخ جديد لمصر.
ظهر نفس اليوم بدأت أنباء العبور تأتى، سبقتها عدة بيانات عسكرية تمهد للحرب، تحدث البيان الأول عن تعرض قواتنا المسلحة لهجوم إسرائيلى فى منطقة الزعفرانة والسخنة، ثم بيان آخر بالاشتباك مع القوات الإسرائيلية وردها حتى صدر بيان يزف للعالم العربى كله بشرى عبور القوات المسلحة قناة السويس، وفتح ثغرات فى الساتر الترابى الضخم، ورفع العلم المصرى عاليا على الضفة الشرقية من قناة السويس.
قبل ست سنوات من الحرب عشنا أياماً حالكة السواد، استمعنا إلى بيانات عسكرية تتحدث عن تدمير وتحطيم آلاف الدبابات والطائرات الإسرائيلية ثم صحونا من الوهم على احتلال سيناء، وتنحى الرئيس جمال عبد الناصر عن الحكم، لكن هذه الذكريات السيئة لم تكن حاضرة يوم السادس من أكتوبر، ولم يشك أحد فى البيانات العسكرية الجديدة المبشرة بالنصر.
عاشت مصر ست سنوات عجاف بين يونيو 1967 وأكتوبر 1973، وتم توجيه كل موارد الدولة لدعم المجهود الحربى، عشنا سنوات الحرمان الحقيقى، كانت أمهاتنا تصنع الصابون فى البيوت لأنه غير موجود فى المحلات، ولدى كل أسرة بطاقة تموين تحصل بها ليس فقط على الحد الدنى من السلع الغذائية، وإنما على كل شىء بداية من قماش الكستور لصنع ملابس النوم، حتى قماش تنجيد المراتب وكوبونات لشراء الجاز باللتر من سيارات توزعه فى الشوارع.. لكننا قبلنا شظف العيش بشرف من أجل اليوم الذى نزيل فيه عار الهزيمة ونسترد أرضنا المحتلة.
وحين انطلقت شرارة نصر أكتوبر 1973 كان كل المصريين جنوداً، كل بما يستطيع وما يقدر، ونحن أطفال فى المرحلة الابتدائية لم نعرف كيف ندعم قواتنا المسلحة، وضعت مجلة "سمير" عناوين وأسماء الجنود الذين يحاربون العدو على صفحاتها، فشكلنا مجموعات تكتب رسائل دعم وحب للجنود على الجبهة، أما أخى الأكبر فى الصف الأول الثانوى فقد التحق بقوات الدفاع المدنى، وكان يخرج مع كل غارة ليتأكد من إطفاء الأنوار، ونزول الناس إلى الملاجئ للاحتماء من الغارات الجوية التى يشنها الطيران الإسرائيلى.
وفى كل بيت وكل قرية ومدينة مصرية اتحدت الجبهة الداخلية، وشكلت صفا واحدا، اقتطعت من قوتها اليومى، ورضيت بالكفاف، وشظف العيش من أجل هدف أسمى هو تحرير الأرض.. وحين أعلن الرئيس الراحل أنور السادات قبول وقف إطلاق النار بكى المواطنون فى الشوارع فقد كان حلمنا أن نسترد كل الأرض حتى لو حرمنا من الأكل والشرب.. والحياة.
هذه هى مصر الحقيقية، وهؤلاء هم المصريون الحقيقيون الذين ضحوا بأرواحهم، والذين عاشوا على أقل من الحد الأدنى اللازم لاستمرار الحياة من أجل هدف سام، لم يناضلوا فى الميكروفونات.. ولم يحولوا حيهم لوطنهم إلى تجارة يبنون من خلفها القصور والشاليهات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة