"رزق مسعود.. رزق مسعود.. أنت فين يا حاج بانده عليك بقالى ساعة ماتصحصح شوية.. خلينا نخلص فى يومنا ده" علا صوت الممرضة التى كانت تنادى على المرضى للفحص فى أحد الأماكن المتخصصة لعلاج أمراض الكبد.
كباحثة كنت أظن أنى سوف أذهب فقط لجمع بعض العينات للقيام بدراسة فى رسالة الماجستير.. لكنى فوجئت بهول الموقف..
أشخاص يبدون طبيعيين جدًا منهم من يتحدث لمن بجواره يشاركه حمله ومنهم من يتصفح الجرائد أملا فى أن يجد فيها ماينسيه همومه ولا يزيد منها..
حتى هذه اللحظة كل شىء يبدو طبيعيًا جدًا.. أناس مثل كل الذين نصادفهم يوميا فى أماكن العمل والشارع والمحلات..
ثم جاءت لحظة تفحص ملفات المرضى لأختار العينات المناسبة.. فبدأت بالحاج رزق..العمر 55 سنة.. يعمل سائق.. يعيش بإحدى القرى الصغيرة.. له 5 أولاد.. أصيب بالمرض منذ أكثر من عشر سنين.. يعانى من مضاعفات للفيروس سى لا حصر لها..
أعتقد أن لو بى نصف ما به وصرخ أحد بوجهى هكذا لكنت ربما صفعته على وجهه.. لكنه بدأ بالاعتذار لها أنه لم يكن متنبهًا لطول الانتظار الذى تعدى 7 ساعات وبعد الرحلة التى قطعها من مسافة بعيدة..
جاء بعده ملف مُدرِسة.. ثم عامل نظافة.. ثم مسِن.. ثم شاب طبيب فى سنة امتياز أصيب بالمرض أثناء عمله.. وتوالت الملفات وكلها مليئة بما لا يمكن أن تستنتجه من مجرد رؤيتك أو تعاملك مع أحد المرضى..
تخيلت أن هذه هى المُدرسة التى تتعامل مع الطلبة المشاغبين والمرفهين وتصبر على تعليمهم..
والعامل الذى ينظف الجامعة يتقاضى بضعة جنيهات ويصرخ بوجهه الطلبة والأساتذة لأنه لا يقوم بعمله على أكمل وجه.. وعندما يضع صندوق فى نهاية موسم الامتحانات البعض يضع به بحب والآخر يضع ولسان حاله يقول.. "أمتى بأه يبطلوا نظام الشحاتة ده.."
والمسن الذى تعصب على دون أى سبب فقلت: "ده ماله المجنون ده.. معلش أهو عجوز.. خلينى أنا الأحسن.. مش هارد.." وظننت هكذا أنى تنازلت كثيرا..
والطبيب الحسن الوجه الذى يبدو عليه الترف والغنى وظننت أنه جاء مع والده المريض.. ولكن اكتشفت أنه هو المريض.. تخيلته وهو منطو ومنزو ومن حوله يستنكرون "هو متنّك ليه؟؟!!"
وكلما أخذت ملفاً توالت الأفكار.. وشعرت بأحاسيس كثيرة.. بالخجل.. بالشكر لله.. بالتقصير الشديد.. بالضعف.. بالحب.. بالتماس الأعذار..
هل سأستطيع برسالتى البسيطة أن أقدم شيئا؟!! هل سيستطيع الطبيب المعالج أن يخفف من الألم الذى ليس له علاج؟؟!! هل ستستطيع الممرضة أن ترعاه ؟؟!!
ربما.. لكن من الأكيد أن البسمة والكلمة الطيبة فى وجوه بعضنا البعض قد تخفف عن الجميع.. قد لا تزيد من الشقاء.. قد تكون حافزاً لأن يساعد أحدنا الآخر.. قد تكون حافزا للطالب، للطبيب، للصيدلى، للممرضة، للمعلم، لعامل النظافة أن يراعى عمله.. إن لم نساعد فعلى الأقل نشعر ببعضنا البعض.. بمن حولنا وفى تعاملاتنا.. نقدر ما يعانون ولا نزيد من همومهم و نحن غافلون من هم..
ثم تذكرت حديث الرسول صلى الله عليه و سلم:
"مثل المؤمنين فى توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر." رواه مسلم. صدق رسول الله
العجيب أنى تصورت أن مشهد المرضى سوف يتعبنى ويوذينى وأنا مرهفة المشاعر.. ولكننى وجدت شيئاً غريباً بداخلى يشدنى إلى ذلك المكان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة