المفكر المستنير الدكتور طه حسين، ينتمى لجيل يقدر قيمة التفكير ودقة التعبير واللفظ، ورعاية المواهب الشابة، لذلك تصدى عام 1935 لكتابة مقدمة كتاب ألفته شابة فى مقتبل العمر آنذاك اسمها سهير القلماوى، تحت عنوان "أحاديث جدتى"، وذكر فيها نصا ما يلى: "مصر خليقة أن يحسب لها حساب حين ترضى، وأن يحسب لها حساب حين تغضب، وأن يحسب لها حساب حين تريد".
عميد الأدب العربى أوجز بكلماته البليغة نظرته ونظرة جيله لوطنهم مصر التى كانت قابضة حينئذ على مؤهلات وسمات تبيح وتتيح لها جعل صوتها مسموعا ومدويا، ومستحقة للتقدير والاحترام، رغم كونها محتلة من قبل بريطانيا.
وحينما حدد طه حسين صفات الرضا والغضب والإرادة، فإنه لم يكن يستند ويتكأ على معايير التاريخ والجغرافيا والثقل الحضارى فقط، لكنه كان مبصرا ولامسا لمقاييس تقويها وتعضدها، مثل جودة التعليم، حتى فى ظل أن الأمية كانت سائدة وشائعة بين المصريين، وأن القوانين كانت تسن لخدمة وحماية الأغلبية السحيقة من المواطنين، وكانت موضع رهيبة وهيبة، وأن البلاد كانت تأكل من كد وعرق الفلاحين الذين كانوا يحرثون ويزرعون الأرض بجد وينتجون، بينما نشهد فى أيامنا تلك أن الفلاح تحول من منتج لمستهلك، بعد أن انشغل عن حرفته بالدش والسهرات المسائية على المقاهى.
أعلم أن كثيرين سوف يقولون إن مصر الثلاثينيات مختلفة تمام الاختلاف عن طبعة الألفية الثالثة، وإنه من غير الجائز المقارنة بينهما، وقد يتبع هذا اتهام بان ذلك يعد حنينا وشوقا للعهد الملكى البائد، وان حال المصريين خلاله كان مؤلما وباعثا على الحسرة والحزن.
لكن أرجو الصبر قليلا لأوضح غرضى، فما ابتغيه ليس تمجيد حكم أسرة محمد على ولا بيان النعيم والعز الذى كان المصريون يتقلبون فيه، وإنما كيف يمكن لمصر استعادة قدراتها الخلاقة، لكى يحسب لها مليون حساب، إذا غضبت، وأن يسعى لنيل رضاها، عوضا عن سعينا للفوز برضا الآخرين، وأن ينظر لما تريده وترغبه بعين الرغبة فى التنفيذ وليس التجاهل.
فى ظنى أن نقطة الانطلاق لابد وحتما أن تكون من التعليم، فبدونه لن نمتلك كوادر بشرية تستطيع التسلح بكل ما يجد فى كافة أفرع العلم، وأن يصبح الإبداع والابتكار هو المفتاح السحرى الذى نفتش عنه فى مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا وليس تدمير الطاقات الواعدة.
يلى هذا محاولة التقليل من اعتمادنا على أطراف خارجية للحصول على طعامنا وشرابنا، فمصر طوال تاريخها كانت مصنفة كدولة زراعية وعليها الاعتناء بهذا القطاع الحيوى، وألا يعمينا اتجاهنا الصناعى عن الزراعة.
فنحن لن نكسب من صناعات الشيبسى والحلويات والمقرمشات ... إلخ، وتلك الصناعات لن تبنى اقتصاديا قويا.
علينا أيضا وضع قوانين تقنن وترسم شكل علاقة المواطن بالدولة فى كل شئ، فترسانات القوانين المكتظة بها الأرفف فى مكتبات كليات الحقوق ومجلس الشعب غير مطبقة أو توظف عند تطبيقها لشخص أو لجهة ما.
والأهم أن تحرص الحكومة على معاملة المواطن بصفته شريكا وليس ككم مهمل لا يذكر سوى خلال مواسم الانتخابات، وأن تؤمن قولا وفعلا بأهمية إعلام المواطن وتبصيره بأسباب وخلفيات قراراتها وفرماناتها، وألا تتركنا نضرب أخماسا فى أسداس، وسأضرب مثالا بسيطا والتمس العذر لكونه شخصيا. قبل شهر تقريبا جاءت أعداد غفيرة من العمال إلى الشارع الذى أقطنه، وكسروا الأرصفة وجرفوا الشارع من الأسلفت، ثم انتظرنا ماذا سيفعلون فلم نتلق جوابا، وترك الشارع على حاله بدون أن يبلغنا احد من السادة المسئولين عما سيفعل فيه.
نفس الشىء تجده فى قرار وقف بث قنوات دينية لارتكابها مخالفات للترخيص الممنوح لها، ولم تقل لنا الجهات النافذة ما هى هذه المخالفات، وعندما يسند لشخص حقيبة وزارية لا نعرف لماذا اختير لها، وحينما يتركها لا ندرى سبب إقالته أو عزله أو استبداله.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة