لست مع القائلين بأن مصر تحولت إلى خرابة كبيرة، أو أن الانهيار قادم لا محالة، وأن الكبار فاسدون وأن الشباب بلا انتماء.. إلى آخر كل هذه الأجندة السوداء التى تجعلنا نلطم الخدود ونشق الصدور وندعو بدعوى الجاهلية الأولى.
فهم بذلك يضعون سدا نفسيا منيعا أمام أى إصلاح أو تغيير، ويزرعون اليأس والإحباط لدى الجميع.
وبرغم أنف هؤلاء مازالت مصر – بقليل من الشروط – قادرة على تجاوز عثرتها، فهى أكبر من كل حكامها على مر التاريخ لأنها هى التاريخ، ولأنها وتد خيمة الحضارة الإنسانية والحل فى الأزمات الدولية والإقليمية طوال العصور، وهى أم الإستراتيجيات فى الجغرافيا السياسية، وأم المروءات فى الخريطة الإنسانية، منها خرج خير أجناد الأرض، وفيها الأمان والدعم لرسالات (اهبطوا مصر)، ولذلك لابد لحكامها من إدراك كنهها والإحاطة بعناصرها ليكونوا بوزنها.
فمازال فى مصر كبار تتشرف العين بالنظر إلى وجوههم، ومازال هناك شباب يحملون أمانيهم الكبرى فى طيات قلوبهم، وفى هذا السياق أعبر عن تعاطفى الشديد مع شباب نتهمهم بالإدمان يحاولون سد الفجوة الهائلة بين الطموحات الممكنة والواقع المعاند، وبالإمكان استعادتهم مع أول مشروع تتحقق فيه ذواتهم الغائبة، كما أن تعاطفى أكبر مع قطاعات الشباب من الذين يستظلون بمظلة الدين التى توفر لهم إحساسا مطلقا بالسكينة والأمان حتى وإن بالغوا أو تطرفوا لدرجة تكفير الآخرين وامتلاك صك الحلال والحرام، طالما أن الغيرة البريئة على الدين هى محركهم الأساسى ورفضهم سيادة موجة الابتذال السلوكى والأخلاقى الفاضح فى مناحى الحياة.
فمصر هى التى اخترعت الدين قبل نزول الرسالات وهى البلد الوحيد فى العالم التى يتوجه اللص فيها إلى الله قبل السرقة، قائلا: "يارب استرها معانا الليلة دى"، وتشخص الراقصة إلى الله قبل أن تبدأ وصلة الابتذال لتقرأ الفاتحة.
أما عن الانتماء فلا أحد يزايد على شباب مصر فى ولائه المطلق لبلده حتى وإن شرد بعضهم نظريا، لكنه ساعة الاختبار الجدى يلبى كالجنود، فالذين هاجروا منها قلوبهم معلقة بها حتى النفس الأخير يكفى أن تنظر إلى جمع ممن يعيشون فى الغرب وهم يتحلقون حول أكلة ملوخية لتكتشف أنهم غادروها لكنها لم تغادرهم.
حتى مهاويس كرة القدم منتمون ومجاذيب محمد منير وتامر حسنى واحمد مكى منتمون أيضا، وجمهور عمرو خالد والجندى وجبريل منتمون، أبناء الدويقة ومدينة الرحاب منتمون، شباب العشوائيات والمنتجعات منتمون، المعارضون للنظام وشباب الحزب الوطنى منتمون، كل بطريقته.
المطلوب فقط إعطائهم فرصة لإثبات ولائهم للوطن كقيمة يحافظ عليها الحاكم والمحكوم، المطلوب صياغة مشروع يلم الكل يتبارى فيه القاصى والدانى، وفى ذلك يتنافس المتنافسون، لكن بعض الأقلام التى تتسرع بالإدانة وتتعجل الخراب ليس من حقها أن تطلب إصلاح شىء فى هذا المجتمع، لأنك لا يمكن أن تكون داعية إصلاح وأنت تتهم مجتمع كاملا بالخيانة وعدم الولاء، مفترضا أنك المنتمى الأوحد.
وأخيرا فمصر ليست خرابة حتى لو كره المعارضون والموافقون.