فى حوار مع ابنتى كان أشبه بمناظرة من نوع الاتجاه المعاكس، قلت لها: لقد عشت مرحلة الطفولة والصبا بلا تلوث سمعى أو بصرى ولا دنس، فلم تر عينى مثلا رئيسا أمريكيا متبجحا يضع ساقا فوق ساق فى صالون قصر الرئاسة المصرى، وهو يهدد ويتوعد بمنتهى السفالة، بل لم أر رئيسا أمريكيا فى القاهرة خلال مراحل تكوينى الأولى، وكذلك لم يلوث بصرى رؤية سفاح صهيونى بدرجة رئيس وزراء أو وزير دفاع يعقد مؤتمرا صحفيا فوق أرض الكنانة، مستخدما أحط العبارات فى تهديد المقاومة الفلسطينية، كانت الحالة الوحيدة التى نرى فيها أحدا له علاقة بالصهاينة أن يكون طرفا فى قضية تجسس تم اكتشافها بواسطة أجهزتنا الأمنية، وكان زوار مصر من دول العالم مختلفين عما نراهم الآن، فقد كنا نعرف وجوههم ونحبهم ونتمنى أن نكبر لنصير مثلهم، رأينا استقبال (جاجارين) أول رائد فضاء فى العالم فتمنينا أن نغزو الفضاء، واستمتعنا بمشاهدة الملاكم الفذ محمد على كلاى يتجول فى جامع الأزهر، وعرفنا قصة إسلامه وموقفه الرافض من حرب فيتنام رغم جنسيته الأمريكية، فتمنينا أن نسلم عليه ونقبله ربما أصبحنا أبطالا مثله فى الموقف قبل الرياضة، ومازالت صورة الثائر الرمز تشى جيفارا لا تفارق أعيننا أثناء استقباله الحميم فى القاهرة، ولن أنسى رحلة جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسى الكبير وهو يحل ضيفا على جامعة القاهرة، وزائرا لقرى الدلتا، ومحاورا لشباب المثقفين.
أما مطار القاهرة فكانت الزينة لا تفارقه والحشود لا تغادره عند استقبال زعماء العالم الحقيقيين نهرو وتيتو وشوان لاى وثوار فيتنام وكوبا والكونغو وزامبيا وغانا وغينيا.
وهل تتخيلون مثلا أن أستاذ اللغة العربية قد طلب منا ونحن فى المرحلة الإعدادية كتابة موضوع إنشاء عن أحمد سيكوتورى الثائر الأفريقى الكبير، وبالفعل كتبنا الموضوع لأننا كنا نعرف قصة كفاح سيكوتورى ونتفاعل مع قضايا التحرر فى العالم كله، ونحن مازلنا صغارا فى زمن كانت صورة مصر فيه ودورها ينعكس فى نوعية ووزن زوارها أو فى حجم استقبال المصريين فى الخارج سواء أكانوا رموزا ومسئولين أو كانوا مواطنين عاديين.
الله يكون فى عونكم.. فساد وبطالة وطائفية وبلطجة وعشوائية وقلة أدب وأحزية مرفوعة تحت القبة وحروب كرة قدم وفتاوى وصلة الدش، وأكبر زوار لمصر بيانسيه وشاكيرا وأبو مازن ومندوب سلطنة عمان.
انبرت ابنتى الكبرى فى المناظرة لترد على كل ما قيل، فبدأت بالهجوم: كل الذى تحدثت عنه يعبر عن لون واحد وزاوية واحدة أشبه بالأبيض والأسود، كالفقرات التى أدير عنها الريموت أثناء مشاهدة التليفزيون، ثم إن هذا الزمن أفضل بمليون مرة، لأن الحرية تساوى الكثير، وأنت تتحدث عن رأى واحد واتجاه واحد للحياة ولم تكن لك حرية فى الاختيار، فاكتفيت فى زمنك بالمشاهدة وأنت جالس تتلقى كالأسفنجة دون تفاعل أو تواصل ودون قدرة على الاتصال بالعالم، وأنا أتحدث عنك كفرد.
نحن الآن نتواصل مع الدنيا كلها ثم نحدد باختيارنا الحر وكامل إرادتنا رؤيتنا للعالم والحياة، فهل كنت تعرف شيئا عن عالمك من خلال ساعتين فى قناة تليفزيونية واحدة أبيض وأسود، أو من خلال تليفون العمدة أبو منافلة.. العالم الآن يا بابا تحت يدى أحركه بهذا الماوس، ثم إنك تكتب الآن فيقرؤك ملايين ويتفاعل معك ملايين لا تعرفهم ولا تراهم، لكنك لو قطعت نفسك كتابة فى زمن القلم الكوبيا فلم تجد أحدا يسأل فيك..
عند هذا الحد أوقفت المناقشة مستخدما السلطة الأبوية التى لا أحب استخدامها قائلا إنه ليس زمنك وحدك، بل زمنى أيضا.. فما رأيكم؟