ليست هناك أمة فى العالم، تتقن فن المصافحات والقبلات، قدر ما نتقن نحن العرب بالذات؟
وليست هناك شعوب يستغرق أفرادها مثل هذا الوقت فى القبلات والسلامات والضرب على الأكتاف وهز الأيدى وتوزيع القبلات مثنى وثلاث ورباع، يميناً ويساراً، شمالاً وجنوباً، مثلما نفعل نحن، خاصة فى المناسبات والأعياد وربما أيضاً "عمّال على بطّال" فى أى لقاء عابر بين اثنين فى الشارع.
ـ فى عاصمة عربية يكاد يتعطل المرور، لأن اثنين من قادة السيارات، انهالا بالقبلات وعبارات الترحيب، تاركين سيارتيهما فى عرض الطريق دونما اعتبار لأى قانون مرور، وإذا حاولت أن تعطيهم "كلاكس" للتنبيه بأنهما قد عطلا حركة السير، نظر إليك، أحدهما أو كلاهما وقال لك باستياء: جرى إيه يا عم.. كل سنة وانت طيب! فلا تملك ـ إذا كان عندك ذوق ـ إلا أن تنتظر حتى تنتهى قبلاتهما وتهانيهما!
ـ وفى شاشة فضائية عربية، كنا نضحك حتى نستلقى على القفا، على مشهد زعيم عربى، لا يفتأ يوزع قبلاته بالمجان، فى أى مناسبة، دون اهتمام بأن مستقبله رئيس أو مسئول "ذكر" أو وزيرة خارجية "محسوبة بالاسم ع النسوان" حتى لو كانت من عيّنة وزيرة خارجية أمريكية مثل مادلين أولبرايت أو الست كوندوليزا رايس!
ـ وفى شوارع عربية أخرى، تكاد تكون كل مشاعر الترحيب التى نراها مبالغاً فيها تعبر عن حالة شيزوفرينيا تخالف تماماً كل أوضاعنا السياسية والاجتماعية وانشقاقنا وتشتتنا فى جميع الأصعدة.، حتى على مستوى الاتفاق الدينى على بداية شهر رمضان، أو الاحتفال بيوم العيد، لأننا فى عالم عربى لا يتفق على شىء، لم يتفق حتى فى بلد واحد وربما بين طائفة واحدة رغم أنه لا فرق جغرافياً يذكر فى التوقيت.. لتصبح كل قبلاتنا مجرّد هراء!
المصافحات أو القبلات هذه الأيام أصبحت مشكلة، والقبلات بهذا الشكل، صارت قنبلة موقوتة، ليس مجرد نفاق اجتماعي، لكنها باتت نفاق "زوجى" كما ضحك صديق ذات يوم مازحاً، باعتبار أن تقبيل زوجته حرام وليس "مكروها" فقط.. أما كيف أنجب منها.. فهذا نتاج لنوعٍ من التلاحم، لا يستدعى مجرد سؤال عن قبلة!!
القبلة إذا..
إذا أردت أن يذهب عنك ألمُ الأسنان فقبِّل حمارًا فى خديه.. هكذا قالت بعض الأوهام الشعبية السائدة فى عالمنا العربى، والتى أضافت إنه "إذا أُصِبْتَ بحكَّة فى الأنف فإن أحد البلهاء سيقبِّلك". لم تعرف هذه الأوهام/ الأمثال أن المصافحات هذه الأيام، أصبحت مشكلة، وأن القبلات صارت قنبلة موقوتة يمكن أن تكون بفعل تحذيرات من مخاوف العدوى بفيروس أنفلونزا الخنازير التى بانت تشكل فوبيا مخيفة، للدرجة التى دفعت عواصم عربية للدعوة علناً لتجنب المصافحات والقبلات فى الأعياد والمناسبات. وهو بالفعل ما جعل كثيرين يترددون ألف مرة فى أى مصافحة، ويبسملون ويحوقلون وهم يبعدون وجوههم خوفاً وذعراً.
صحيح أنه فى تاريخ القُبلة، تروى بعض الأساطير أن حوَّاء، حين كانت وآدم فى الجنَّة، استلقتْ تحت شجرة (ربما كانت الشجرة المحرمة) ونامت. فحطَّت على شفتيها نحلة كما تحط على زهرة لـ"تمتص شهد الرضاب"، كما عبَّر الخيَّام، فأفاقت حوَّاء، وابتسمت ابتسامة رقيقة لتتيح للنحلة المزيد من المصِّ. وكان آدم يراقبها، فغار من النحلة، وانحنى على حوَّاء، وحطَّ شفتيه على شفتيها كما فعلت النحلة، فارتاحت حوَّاء لهذه الملامسة الشفاهية. وكانت تلك الملامسة القُبلة البريئة الأولى فى تاريخ البشرية؛ وكانت النحلة دليل آدم إلى الفم الحلو الوحيد قبل سقوط ثمرة نيوتن عليها!
والآن..
لم تعد النحلة هى النحلة..
ولم تعد البراءة هى البراءة..
بل صارت العدوى هى التطوّر الطبيعى لما كان مكنوناً فى القلب، فانتشر فى الهواء الطلق باسم فيروس اتخذ من الخنازير عنواناً قبيحاً، ولو كان الجبرتى حيّاً، لأطلق لساقيه العنان دون أن ينتظر حماره الشهير، أو ليركبه بالمقلوب كما كان يُعاقَب المغضوب عليهم قديماً.
أنفلونزا الخنازير من جديد.. بعد أنفلونزا الطيور.. وغداً ربما أنفلونزا الكلاب
فيروسات تطير بالرعب على جناح قبلة تهنئة.. حاول أن يمنحنى إياها صديقى وهو يزمجر: "ح تنباس يعنى ح تنباس".. لم تنفعنى نصائح وزارات الصحة العربية التى يبدو أنها أفاقت أخيراً، ودعت على شاشات الفضائيات لغسل اليدين والابتعاد عن الزحام ولبس الكمامات..
الكمامات بالذات صارت مادة ساخرة فى رسائل الموبايل فى مصر، التى توجهت إحداها للنساء تحديداً بالقول :"سيدتى المواطنة لا داعى إلى شراء الكمامات الواقية الباهظة الثمن، حسبك تحويل سوتيانك القديمة إلى كمامات لك ولزوجك ولعيالك"، ولنا أن نتخيل مشهد الزوج وهو يمشى فى الشارع بفردة من الـ"سوتيان" إياه، وربما يشترك العيال فى الفردة الأخرى، حسب المقاس! بينما كان من الأفضل ـ كما طلب مواطن بسيط ساخراً ـ أن تمنح الوزارة كل مواطن فوطة وصابونة لزوم التطهير!
يا دى النيلة..
هو أنا قلت صابونة..؟
تاني.. مش كفاية "صابونة" فاروق حسنى!
....كل فيروس وأنتم بخير!!
ـــــــــــــــــ
كاتب صحفى مصرى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة