أقصد بحديثى عن ضروب الفساد أحدها وهو الرشوة.. وأزعم أن تناولها واعتبارها قضية مجتمع يسعى القائمين عليه من مفكرين ومسئولين إلى صلاحه هو أمر يجب أن ننتبه له لشيوعه بين الناس حتى يكاد يكون فى أذهانهم أصلاً.. وحتى أصبح المترفعون عن هذا المسلك يشار إليهم بالبنان لخروجهم على القاعدة.. فإذا كان هذا واقعاً فإن الغفلة عن التصدى له تكون أمراً نكراً.. ونتناول المسألة من خلال نقاط نسوقها تباعاً لعلها تحرك المياه الراكدة وصولاً إلى الحد من هذا الخطر الأخلاقى والاقتصادى بل والسياسى.. وتدور فى ذهنى تساؤلات وتصورات حول النقاط الآتية التى أجدها ضرورة قومية.. وأجد فى غيابها تجاهلاً مستفزاً لخطر هائل.. وتلك النقاط هى :ـ
1- ما هى أسباب تفشى الرشوى التى يمكن تلافيها باهتمام إدارى يضيق الخناق على أصحاب النفوس المريضة من القائمين على العمل العام.
2- ما الكيفية التى يمكن بها أن تمتد صلاحيات أجهزة الضبط.. وفى مقدمتها الرقابة الإدارية.. وسلطات التحقيق متمثلة فى النيابة العامة إلى كافة مؤسسات الدولة.
3- وجهة نظر حيال إعفاء الراشى والوسيط من العقاب إذا اعترفا.
وأعتقد أن أهم تلك النقاط هى الأولى لأن الغفلة الإدارية تأتى فى مقدمة أسباب تفشى الرشوة. وأخطر ما فى هذه الغفلة هو سببها.. فالأمر ليس تجاهلا أو جهلا من القائمين على العمل العام، ولكنه فقدان الموظف العام.. فقدان القائمين على العمل العام بمختلف مستوياتهم الإحساس الداخلى لدى كل منهم (أياً كان مستواه فى السلم الدستورى لكيان الدولة)، بأنهم ما أتوا إلى مواقعهم إلا لخدمة أقل وأبسط المواطنين.. وأنهم لا يحصلون على مرتباتهم إلا من ناتج جهد اقل وأبسط المنتجين.. وهو الأمر الذى أفقدهم الشعور تجاه المواطن صاحب الحق فى أمر ما بأنهم يتعاملون مع من خصهم الله بمواقعهم، لكى ييسروا لهم الحصول على هذا الحق.. ومكنهم الدستور والقانون من صلاحيات مواقعهم، لكى يسخروها فى خدمة هذا المواطن البسيط.. فقدوا هذا الإحساس.. فتعاملوا معه بتعالى.. واستخفاف أدى بأصحاب النفوس الضعيفة منهم إلى أن يطلب مقابلاً دون خجل وبلا مواربة.. فهم لا يشعرون بارتكاب إثم، ولكنهم عندما يعطون هذا أو ذاك حقه فهم يتفضلون عليه كما كان يتفضل الوالى العثمانى على الناس لأنهم (عبيد إحساناتنا).. هذا الشعور الداخلى لدى القائمين على العمل العام فى أى وزارة أو مصلحة حكومية أو تشريعية أو غير ذلك من مؤسسات الدولة جعل من طلب الرشوة وأخذها أمر قد يتعفف عنه البعض لباعث أخلاقى لديهم كأشخاص.. ولكن من لا يتوافر لديه ذلك فإنه لا يجد أى غضاضة فيه.
وهذا السبب الأول لتفشى الرشوة أدى إلى مصيبة كبرى يجب أن ينتبه لها الساسة "إن أرادوا إصلاحاً"، ويجب أن يتبناها كل صاحب فكر وقلم.. وتلك هى فقدان هذا المواطن صاحب المصلحة لشعوره بأنه فى بلده.. وهو ما نسميه الشعور بالانتماء.. فنشأ جيل خلال السنوات الأخيرة لا يشعر بانتماء لأنه لا يشعر بأنه صاحب الحق فى هذا البلد.. ومواجهة هذا الأمر من جانبه الذى بدأنا به حديثنا وهو تفشى الرشوة لا يكون إلا.. وببساطة شديدة.. وبوضوح سبل محددة يسلكها كل صاحب مصلحة تؤدى به حتماً إلى الحصول على مبتغاه.. ولا يملك قائم على عمل عام أياً كان مستواه أن يعطل هذا المسلك.
ولا يصح القول بكيف يكون هذا المسلك، لأنه إذا لم ينجح المسئولون عن إدارة العمل العام فى إيجاده فإن هذا لا يكون له إلا معنى واحد وهو أنهم غير صالحين للقيادة.. فالقيادة فكر ولا يصلح الاختباء خلف تساؤل سخيف (ماذا نفعل حيال كذا وكذا؟).. فمن لا يعلم ماذا يفعل لا يصلح للقيادة.. ومسألة المعايير والسبل المحددة تقع مسئولياتها على عاتق وزير التنمية الإدارية.. ورئيس الحكومة ومن بعدهم كل وزيراً ورئيس لجهة أو شركة ما فى موقعه.. بحيث لا يملك موظف عام مثلاً أنى عطل صرف مستخلص بمستحقات أعمال نفذها مقاول نتيجة لامتناعه عن اعتماده أو تأخير هذا الاعتماد الذى يحرم صاحب الحق من سيولة هو فى حاجة ماسة لها لسداد سلسلة من المديونيات لمن اشترى منهم مواد خام أو للعاملين لديه أو لصيانة معدات.. إلخ.. ولا يملك هذا المسئول الامتناع عن التوقيع أو التأخير فيه إلا لكون المنظومة الإدارية تبيح له ذلك.. أما إذا كان هناك معيار زمنى محدد.. ومسائلة عنيفة لمن يتقاعس.. فإن صاحب الحق سوف يحصل على حقه خلال توقيت معلوم مسبقاً.. والمتقاعس سيجد نفسه على أحد المقاهى، لأنه لا يصلح لا يوجد فى مكانه الذى يتخذ منه متجراً يبيع فيه حقوق الناس إلى أصحاب هذه الحقوق.. وفى لقاء لاحق بإذن الله نتناول التساؤل الثانى الذى يدور حول كيف يمكن أن تمتد صلاحيات أجهزة الضبط إلى كافة مؤسسات الدولة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة