فى المقال المنشور لى على موقع اليوم السابع بتاريخ 27/8/2009 تناولت إجمالا الهجرة غير الشرعية بصورة تحمل طابع اللمحة السريعة وتسليط الضوء على ظاهرة من شأنها أن تتسبب فى نخر عظام الوطن كما ينخر العشب الضار فى الحقل فيهلك الماء ويسحب بطول قامته ضوء الشمس، وبذلك تتهالك من تحته أو تفقد "على أقل تقدير" النباتات الصالحة جزءاً هاماً من حقها فى الغذاء الذى يحدد نموها وحجمها، والتى تشكل مورد صاحب الحقل، فالحقل هنا الوطن، والنباتات الضارة هى الهجرة غير الشرعية فى حد ذاتها والنبات الصالح إنما هو جهد أبناء هذا الوطن الذى يضيع هباء إما للغير أو أن يلقى الإنسان حتفه أثناء رحلته إلى المجهول، وفى أحوال كثيرة يكون مصير هذا الإنسان الضياع بين مخالب التيه التى تتلقف الكثير من المهاجرين غير الشرعيين، بسبب نقص إمكاناتهم المعرفية بالمجتمعات التى يهاجرون إليها، سواء المعرفة اللغوية أو الثقافية أو طريقة عيش وتفكير هذه المجتمعات، لذا وبعد حديث طويل مع أحد الأصدقاء وهو المهندس محمد الديك والذى أمضى فترة طويلة من عمره وزيرا للصناعة فى الجمهورية العربية السورية، وكذلك يعرف مصر تمام المعرفة لكونه خريج جامعة القاهرة ودرس بمصر لسنوات طويلة، ويعرف بحكم منصبة السابق وكذلك إقامته فى كل من كندا وفرنسا لفترة تربو على الربع قرن، يعرف مدى تأثير هذه الظاهرة اللعينة على دولة مثل مصر "على الأقل على الصعيد الاقتصادى" قررت أن أستفيض فى هذا الموضوع بعض الشىء عن طريق بعض المقالات، مجنبا تخصصى بعض الشىء فى القانون الدولى ومتناولا علم الاجتماع الذى أعشقه وعلم النفس الذى أهتم به كثيرا مع علم الاقتصاد أيضا، لأتناول الأمر من جوانبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المشكلة، لما يمكن تسميته بأسباب الطرد وكذلك المناخ والعامل النفسى واللذين يشكلان على الدفة الأخرى عامل الجذب، محاولا إلقاء الضوء على كل بعد من الأبعاد الأربعة بطريقة التحليل العضوى مع طرح بعض المقترحات التى من الممكن أن تسهم فى حل مثل هذه الظاهرة المقيتة.
وأبدا من حيث تبدأ عادة الفكرة فى الهجرة، سواء أكانت هجرة شرعية أو غير شرعية، حيث يلعب هنا عنصر الانبهار المبنى على غير معرفة حقيقية دورا كبيرا جدا فى تولد الرغبة فى الهجرة بأى وسيلة ولو كانت غير شرعية، لدرجة أن البعض قد يكون ليس فى حال يتضور فيه جوعا وليس فى حال يمكن وصفه بالمزرى فى بلده، وعلى الرغم من ذلك نجد هذا الشخص يضحى بعمله واستقراره فى بلده حالما بالوصول إلى الجنة المزعومة، والتى ليس لها وجود إلا فى عقله فقط، فقد كنت ذات مرة أسير فى أحد شوارع باريس وكان يوما برده قارص وكنت فى طريق العودة إلى المنزل، ومن شدة برودة الجو قررت دخول أحد المقاهى لتناول مشروب ساخن كى أستطيع مواصلة المسير، على الرغم أن المسافة لم تكن بالكبيرة بل كانت فى حدود الألف متر تقريبا، ولحظة دخولى إلى المقهى وجدت شابا مصريا يترنح ويلتف حوله زبائن المقهى، لأنه يهذى بالإنجليزية قائلا، إنه يريد أن يقتل نفسه ويبكى بشدة مع ظهور علامات السكر عليه، وبجانبه يقف أيضا صاحب المقهى فى انتظار حضور البوليس، لأن هذا الشخص لم يدفع ثمن ما تناوله من خمور.
لحظة وقوع عينى عليه لم أتمالك وكدت أن أنهار وتملكتنى رعشة نفضت جسدى حتى كادت تقطع جسدى أوصالا... يا إلهى إنه... هو خالد، زميل دراستى فى المرحلة الثانوية فى مصر وصديق المراهقة، لم أكن أصدق ما يحدث حتى اقتربت إليه وبدأت التحدث معه باديا بسؤاله إذا ما كان اسمه خالد، أجاب على نعم وسألنى من أكون فقلت له اسمى، وذكرته بأيام الثانوية وأسماء المدرسين، وفى أثناء الحديث وصلت الشرطة باحثة عن الشخص الذى يهدد بأنه سيقتل نفسه وكذلك لم يدفع أيضا حساب ما تناوله من خمور، فهممت للحديث إلى الشرطة موضحا لهم أنه لم يقل إنه يريد الانتحار –حتى لا يتم حبسه للكشف على قواه العقلية- واستطعت بعد عناء إقناع الشرطة أن الشخص الذى قام بالاتصال بهم التبس عليه الأمر، لأن صديقى كان يتحدث بالإنجليزية لعدم معرفته الفرنسية مستخدما كلمة Call التى تعنى الاتصال، لأنى تأخرت عن موعدى معه، وكان يتساءل إذا ما كان بإمكانه الاتصال بى لعدم وجود رصيد كاف فى هاتفه المحمول وليست التى تعنى قتل .kill
وبعد وقت عصيب أمضيته فى تلك المقهى التى يعرفنى صاحبها حق المعرفة لسكنى بجوارها وترددى عليها بصفه مستمرة. استطعت أن أخرج بزميل الدراسة وصديق مرحلة ذهبية فى عمر كل إنسان. وفور خروجى اصطحبته للبيت وأثناء السير سألته عن السبب الذى أتى به إلى هنا؟ خاصة أنى كنت قد عرفت من صديق آخر أنه كان قد أنهى كلية التجارة، وأنه كان يعمل فى وظيفة ممتازة فى إحدى شركات الأدوية فى مصر وأنى كنت أعرف أنه أيضا من أسرة كريمة فوالده كان رئيس محكمة ووالدته أستاذة جامعية وأخوه الكبير طبيب وله أخت صغرى إعلامية!!! كانت الإجابة هى بكاء مرير من جانبه أدركت معه أن صاحبى فى حالة نفسيه سيئة، وأن على تغيير الموضوع وجعله ينام، ولكن لحظة وصولنا البيت كانت صدمة له أنه وجد سيدة فى البيت فسألنى من تكون؟ فأخبرته أنها زوجتى. فتملكته الروح المصرية لحظتها وبدأ عليه الارتباك وصمم على الانصراف، ولكنى واجهت تصميمه بتصميم أشد على وجوب أن يبيت ليلته تلك فى منزلى، لأنى كنت أدرك أنه لو خرج فى تلك الحالة إما سيصنع فى نفسه شيئا مكروها وإما سيكون القبض عليه من قبل البوليس فى الشارع أمر محتوم لا مفر منه.
وحينما قبل المبيت وأحضرت له ملابسا للنوم طلب منى أن يستحم بماء بارد حتى يفيق من الخمر، وبعدما انتهى من ذلك كان العشاء قد حضر، ولكنه طلب فنجانا من القهوة وجلس لجوارى باكيا يحدثنى عن ما صنع الزمان معه طوال ثلاثة أعوام هى فترة تواجده فى أوروبا متنقلا بين شوارع ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا. بدأ حديثه بالاعتذار لزوجتى عن الحالة التى دخل عليها منزلنا لأول مرة وتأسفه على عدم إجادته اللغة الفرنسية، فأجابته زوجتى باسمة لا عليك سيدى فزوجى حدثنى فى عجالة أنك صديق قديم له، وأنا أرحب بك فى بيتنا، أما عن عدم إجادتك الفرنسية فأنا أيضا مخطئة لأنى لا أبذل ما يكفى من الجهد لتعلم العربية لغة زوجى وأولادى، ولكنى سأفعل واستأذنت فى الانصراف للنوم.
وبدأ صديق يحكى لصديق قديم عن مآسيه فى تلك القارة التى تتلألأ من الجانب الآخر من البحر المتوسط بأضواء ساحرة وتتناقل سيرتها الألسن على أنها هى الجنة التى أتتنا أخبارها فى الكتب السماوية، حتى إنه ضحى بمستقبله فى مصر بل وبخطيبته التى كان يحبها منذ السنة الأولى فى الجامعة وأنه حضر إلى هنا بحلم أن يكون رجل أعمال كبير وامتلاك مجموعة شركات و.. و..و.. ولكنه حينما وطئت قدماه أوروبا وجد نفسه بين براثن التيه والضياع، العمل غير متوفر إلا بشق الأنفس وإن توفر فهو عمل ذو طبيعة غاية فى القسوة، حيث يكون عادة فى أعمال البناء أو فى سوق الخضار كحمال أو شيال، ناهيك عن ظروف المعيشة التى تكون معاييرها لا تصلح للكيان الآدمى من النوم فى غرفة واحدة مع خمسة أشخاص، وعدم انتهاء الأمر عند هذا الحد من الضغوط فى العمل، بل يمتد إلى كونه مهددا فى الشارع من البوليس الذى يقوم بترحيل المهاجرين غير الشرعيين وكيف أنه يسير فى الشارع يلتفت يمنة ويسرة وكأنه مجرم اقترف ذنبا عظيما... إلخ.
كان سؤالى الأول له بعدما تركته يفرغ ما فى داخله من شحنه قهر وعناء، هو: وما السبب فى أنك تمردت على واقعك فى مصر ولماذا لم تحاول بناء أى مشروع فى مصر مثل فلان وفلان من أصدقائنا وزملاء الدراسة القدامى الذين عملوا ونجحوا فى مصر؟
وكانت الإجابة لى جد صاعقة حينما أجابنى بأن أخاه الطبيب كان قد سافر إلى ألمانيا منذ قرابة الثمانية أعوام فى دورة تدريبية هناك، ولكنه تخلف عن العودة بحجة أن المستشفى الألمانى التى كان يتدرب فيها عرضت عليه البقاء، وأنها هيئت له كل سبل العيش الكريم من بيت وسيارة فضلا عن مرتب ضخم وأن أخوة هذا كان يراسل أسرتهم فى مصر باستمرار ويرسل لهم صورة فى ألمانيا، ويضيف أنه كان دوما يتحجج لعدم زيارة مصر أثناء إجازاته بأنه يريد أن يسافر لمناطق أخرى من العالم – عشان يشوف الدنيا- وأن هذا هو الذى أعطى هذه الصورة الخاطئة الضالة المضلة له وجعلته يقع تحت تأثير حالة نفسية أشبه بالهياج منها للميول إلى السفر إلى تلك الجنة الموعودة.. ويضيف أن أول صدمة زلزلته فى أوروبا هى لحظة لقائه بأخيه الذى اكتشف أنه هجر مهنة الطب وأصبح "اسطى مبيض محارة" فى ألمانيا وأنه كان يكذب على أسرته ولا يزال يكذب عليهم حتى الآن وأنه لا يملك الإقامة الأوروبية، وبالتالى لا يمكنه مغادرتها حتى لزيارة أهله فى مصر.
هذه هى مجرد قصة واحدة من آلاف القصص التى يصادفها المرء هنا بصورة منتظمة ومستمرة. صورة خاطئة يعطيها شخص فاشل للهروب من حقيقة فشلة + طبيعة إنسانية نزاعة للتغيير إلى ما هو أعلى من الدرجات = قصة فشل وضياع إنسان وضلاله، ثم من بعد ذلك تحوله للدخول فى المعطى الأول للمعادلة ليدعى لنفسه النجاح فيما بعد ويعطى صورة مخطئة لأناس آخرين.
هكذا يلعب العامل النفسى والأوضاع السيكولوجية للإنسان دورا محوريا فى اجتذابه لرحلة قد يكون فيها الهلاك نصيبه، تماما كالفراشة، فالكل يعرف أن الفراش ينجذب ويسارع إلى أى مصدر ضوء، ولما كانت النار هى المصدر الأول للضوء فإن الفراش يرتمى فيها ليحترق ولا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان.
لكن الإنسان مخلوق مفكر يمكنه التحكم فى تصرفاته فى مختلف أوضاعه النفسية التى تسيطر عليها رغباته وشهواته وبتصميم من إرادته يمكنه امتلاك زمام الأمور، وعدم الارتماء فى النار كالفراش ليحترق لمجرد أن شخصا تكلم أمامه عن أوروبا أو أمريكا أو أى دولة أخرى، أو بسبب ضائقة أو وضع اقتصادى صعب يمر به فى بلده، وهذا ما سيكون موضوع المقالة القادمة.
* رئيس مركز السوربون للقانون الدولى والعلاقات الدولية - باريس فرنسا
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة