حمدى رزق

الغول

الثلاثاء، 04 أغسطس 2009 07:59 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
العدو المباشر الصريح فى عداوته، ومهما تكن شراسته ودمويته..خير من عدو خفى يتسلل فى خبث وعلى مهل إلى أعز الناس، مختطفا إياهم من سياق الحياة، محولا دنياهم إلى ألم مستمر ساحق يفتت الجسد ويزهق الروح، ولا خلاص منه سوى بغيبوبة، تلك الآلام وهذه الغيبوبة التى تحول حياة ذويهم من الأهل والأحباب إلى جحيم..حتى يخرج بعضهم عن رشده، فيتمنى لهذا المغدور الموت رحمة له من ألم لا قبل للبشر بتحمله.

عن السرطان أكتب..وياله من موضوع لم أكن أتمنى أن أكتب فيه يوما، تفرض الحياة وتقلباتها على الكاتب سطورا لم تكن تخطر على قلبه، وهو عرف ارتضاه معشر الكتاب من قديم، وإلا فليس أمامهم سوى الأبراج العاجية، وهى النهاية القاطعة لأى قلم.

لكن ما العمل ووحش السرطان يختطف منا الأحباب الواحد تلو الآخر ؟ ما العمل والأرقام المؤكدة تقول إن هناك مائة ألف مريض بالسرطان انضموا إلى معهد الأورام هذا العام وحده؟ وإنه من بين كل مائة ألف مصرى يوجد 150 شخصا مصابين بالمرض اللعين؟ ليس هذا الموضوع مما يمكن للكاتب أن يتجاهله، إن كان حقا مهموما بالوطن وناسه الطيبين، أهلنا فى الريف وفى الأحياء الشعبية يسمونه (المرض الخبيث) اتقاء لذكر اسمه مجردا، يعافون ذكر الاسم، لكنهم موقنون من أن تسميته بالخبيث لا تلغى وجوده المحسوس المرعب ..!

السرطان غول متوحش، وهو ذكى..وذكاؤه شرير لا شك فى ذلك، إن لدى السرطان حاسة استشعار دقيقة للغاية بأهمية الضحايا الذين يقتنصهم، صحيح أن بعض هؤلاء الضحايا يصمد ويكتب له الله النجاة، ولكن حتى هؤلاء المرضى الاستثنائيين يمثلون شريحة محدودة من بين المصابين على وجه العموم بالمرض الخبيث، إنه يختار ضحاياه بعناية فائقة، وكأنه يريد على الدوام أن يذكرنا بخطورته وقدرته على سلبنا أخطر أسلحتنا الحضارية والإنسانية على الإطلاق: العباقرة والموهوبين.

السرطان حين يختار كاتبا أديبا وناقدا يختار الراحل الكبير رجاء النقاش، وحين يطعن شاعرا يختار أمل دنقل، وحين يحاول النيل من كاتب صحفى يختار يوسف الشريف وحسن شاه، ويقتنص من الفنانين أنور وجدى ومحمد فوزى وأحمد زكى ورشدى أباظة وناهد شريف ومديحة كامل وسعد الدين وهبة وعبد السلام أمين، ومن الأديبات نعمات البحيرى، وهو يحاول الآن محاولاته الخبيثة مع السيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة، والقائمة تطول.

يختار السرطان إذن أن يباغت بشره المستطير أعز المصريين على قلوبنا، هؤلاء الذين لو خسرناهم كانت الخسارة فادحة بحق، إنه يبدو كمن يسعى لخلع درر التاج منا واحدة فواحدة ليستخلصها لتاجه هو، تاج الموت الأسود المؤلم ، وتاج عناء الأهل والأحباب وهم يرون أعز الناس يتألمون أمامهم وهم لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا.

نعم..هناك حالات نجاها الله، وتمثلت فيها طفرات طبية عبقرية سواء فى مصر أو خارجها، ومنهم من امتلك عزيمة جبارة وحبا بلا حدود للحياة، فكتب له عمر جديد وهزم السرطان، لكن الأغلبية من المصابين قد لا يستطيعون خوض المعركة ذاتها، والمأساة تكتمل بعوامل متعددة..

فالتكلفة العلاجية باهظة والأعداد تتزايد، والعلاج الناجع لم يتوافر بعد، الطب فى مصر وفى العالم يستميت محاولا إيجاد سبيل للعلاج، لكنه لم يحقق هذا الحلم بعد حلم خلاص البشرية من رعب السرطان. والسرطان لم يكتف بمهاجمة هؤلاء الأعزاء وانتزاع دررهم من التاج، لكنه فى نهمه مضى يغدر بالأطفال، متلذذا بآلامهم التى تنهش قلوب الكبار وتعذبهم أكثر من أطفالهم المصابين بالسرطان..وبهذا يجد الكبار والصغار أنفسهم فى معركة ممتدة متعددة الأبعاد والعذابات مع هذا الوحش.

إنها ليست بكائية على أرواح الأعزاء الذين اختطفهم المرض الملعون، ولا هى دعوة للمزيد من الرعب منه، ربما العكس هو الصحيح والعكس هو المطلوب والضرورى. إنها معركة جديدة أمامنا ..معركة ندافع فيها عن الحياة ذاتها، دافعنا عن الأرض وحميناها واستشهد عشرات الآلاف من خيرة شبابنا ذودا عن حياضها، لكننا هذه المرة أمام هجوم سرى تسللى دنيء ، يريد اختطاف سر الحياة ذاته من أرواح أغلى الناس على أرض الوطن، وأول سلاح فى هذه المعركة أجدنى أفتقده فى الناس هو الأمل فى الشفاء، وفى أن يكتب الله النجاة للمغدورين ، هذا الأمل يضخ الحياة فى الشرايين ويقوى الجسم فى مواجهة العدو الدنيء، ومطلوب للمصريين (ثقافة) مضادة لهذا المرض، يعترفون فيها بوجوده ولا يتجاهلونه أو يدفنون رؤوسهم فى الرمال منه، وأن يمتلكوا من الأمل وإرادة الحياة ما يكفل لهم الصمود فى وجه هذا العدو الذى يحرص على ألا يرينا وجهه إلا حين يتمكن من توجيه ضرباته القاتلة.

نحن المصريون غلبنا جميع أعدائنا فى ساحات القتال، وصار علينا أن ننتصر فى هذه الساحة الجديدة التى فتحتها الأقدار على عشرات الآلاف من أعز موهوبينا وعباقرتنا ورموزنا وأطفالنا أيضا..معركة للطب فيها دور كبير، والأمل معقود بنواصى أطباء شبان يستطيعون أن يخلصونا من هذا الوحش بالعلم، نعم هو العلم والأمل..سلاحان وحيدان فاعلان معنا فى هذه المعركة، التى ستنتهى يوما بانتصار البشرية على سرطان الجسد، وليكن الله فى عون من أصابه سرطان الروح، وما أكثر السرطانات فى دنيانا، ولكن الناس لا يعلمون!

* نقلا عن المصور





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة