تواترت فى الأيام الأخيرة تقارير صحفية أمريكية وإسرائيلية تشير إلى أن البيت الأبيض الأمريكى سوف يبدأ خلال الأسابيع القادمة حملة علاقات عامة فى إسرائيل والدول العربية لتقديم شرح أفضل لخطط الرئيس الأمريكى باراك أوباما الرامية إلى التوصل إلى سلام يشمل إسرائيل والفلسطينيين والدول العربية، وذكرت النيويورك تايمز الأمريكية أن الحملة ستشمل مقابلات تليفزيونية مع أوباما فى التليفزيون الإسرائيلى والتليفزيونات العربية، قيل أيضا إن هناك بنودا عديدة فى خطة أوباما للسلام الشامل لكن ما نشر منها حتى الآن اقتصر على مطالبة أمريكا لإسرائيل بتجميد الاستيطان فى الضفة الغربية مقابل إصلاحات أمنية فلسطينية ومبادرات عربية تطبيعية تجاه إسرائيل.
فلنأخذ أولا الجانب الإيجابى من القصة، فإدارة باراك أوباما تفردت بوضعها مسألة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية ضمن جدول أعمالها منذ يومها الأول فى السلطة، هذا تغيير إيجابى مقابل إدارات سابقة اختارت تأجيل التعامل مع هذه القضية حتى شهورها الأخيرة فى السلطة كإدارة بيل كلينتون.. أو اختارت تجاهل القضية من الأساس والتركيز على مزيد من الانحياز لإسرائيل وبرامجها الاستيطانية كإدارة جورج بوش.
الرئيس باراك أوباما يركز موقفه المعلن حتى الآن على جانبين: رفع شعار «حل الدولتين» بمعنى قيام دولة فلسطينية تتعايش مع إسرائيل كدولة.. ومطالبة إسرائيل بتجميد الاستيطان فى الضفة الغربية، إلى هنا ليس هناك جديد، فحل الدولتين أعلنه سابقا الرئيس جورج بوش منذ سنة 2002، بل وحدد موعدا لقيام الدولة الفلسطينية، ثم تبين أنه لم يكن جادا على الإطلاق فى نقل الشعار إلى أرض الواقع، أما بالنسبة لتجميد التوسع الاستيطانى الإسرائيلى وهو ما بدا للحظة أن إدارة أوباما تأخذه بجدية فهو أساسا «المرحلة الأولى» من «خريطة الطريق» المعلنة منذ سنة 2003 وتنص على «وقف النشاط الاستيطانى برمته بما فى ذلك النمو الطبيعى للمستوطنات».
لم ينتظر بنيامين نتنياهو وحكومته فى إسرائيل الكشف عن خطة الإدارة الأمريكية الجديدة للسلام واختار شن حرب إعلامية استباقية رافضا التجميد الاستيطانى بحجة الحاجة إلى «النمو الطبيعى» فى المستوطنات القائمة وكذلك حق اليهود فى استيطان منطقة القدس الكبرى، الشد والجذب هنا لم يتطور بعد إلى مواجهة مكشوفة لسببين: أولا إن الرئيس باراك أوباما لايزال يتمتع داخليا بشعبية عالية فوق الخمسين بالمائة.. وثانيا معرفة نتائج استنفار المنظمات اليهودية الصهيونية داخل أمريكا قبل التصعيد مع الإدارة الأمريكية.
منظمة «إيباك» مثلا.. وهى كبرى المنظمات اليهودية الأمريكية المروجة للمصالح الإسرائيلية.. حشدت 25 عضوا بالكونجرس كلهم من الحزب الجمهورى المعارض لزيارة إسرائيل والتعبير عن التضامن مع نتنياهو وحكومته فى رفض تجميد الاستيطان، نفس المنظمة حشدت أيضا مائتى عضو بالكونجرس للتوقيع على رسالة موجهة إلى الملك عبد الله فى السعودية تحثه على البدء فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتأرجح الإدارة مؤخرا نحو الموقف الإسرائيلى يمثله قيامها بوضع خطوة تجميد الاستيطان الإسرائيلى إذا جرت معادلة لقيام الدول العربية بمبادرات علنية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، الرئيس أوباما وجه رسائل بهذا الخصوص إلى زعماء سبع دول عربية مشيرا إلى إجراءات تطبيعية محددة يطلبها من العرب باتجاه إسرائيل. من هذه الزاوية كان لافتا قيام هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية مؤخرا بالدعوة إلى تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، بينما يقف إلى جوارها سعود الفيصل وزير الخارجية السعودى الزائر فى مؤتمرهما الصحفى المشترك.. كان لافتا أيضا أن يواجهها الوزير السعودى فى نفس المؤتمر وبأكثر الكلمات صراحة واستقامة بأن إسرائيل غير جادة فى التوجه نحو السلام وأن أى تطبيع عربى مع إسرائيل لا يتم إلا مقابل انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى العربية المحتلة.
مسألة التطبيع هذه ليست مطلوبة من العرب فقط لأنها تحقق مصالح إسرائيل، ولكن أيضا لأنها تعنى اندماج إسرائيل فى جسد المنطقة اقتصاديا وتجاريا وثقافيا وجغرافيا ولكن مع احتفاظ إسرائيل بوحدة عضوية مع أوروبا وأمريكا استراتيجيا وسياسيا.
وفى كتاب صدر مؤخرا بعنوان «البيت الأبيض والشرق الأوسط من الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب» من تأليف باتريك تيلر نكتشف إلى أى حد سيطرت فكرة التطبيع والإلحاح بها منذ وقت مبكر على كل إدارة أمريكية بالغت فى انحيازها لإسرائيل.
فمن زاوية اهتمامنا هنا يكشف الكتاب لأول مرة عن واقعة لافتة تماما جرت فى سنة 1985 بين الرئيس الأمريكى حينئذ رونالد ريجان والملك السعودى فهد الذى كان زائرا لواشنطن بدعوة رسمية فى زيارة دولة الختام الرسمى للزيارة تمثل بمأدبة عشاء يقيمها الرئيس الأمريكى للضيف السعودى، حيث ذروة العشاء كلمتان متبادلتان يلقيهما كل منهما أمام الكاميرات, فى ذلك النوع من الترتيب جرى العرف على أن يخطر كل طرف الطرف الآخر مسبقا بنص مكتوب للكلمة الرسمية التى سيدلى بها كل منهما، لكن مع اقتراب موعد مأدبة العشاء لاحظ الملك فهد ومستشاروه أن الجانب الأمريكى لم يخطرهم بنص الكلمة المكتوبة التى سيلقى بها الرئيس ريجان، فتوجسوا شيئا قد لا يمكن تداركه بعد أن تسجله الكاميرات.
مراوغة الجانب الأمريكى استمرت حتى موعد مأدبة العشاء، فى حينها لم يكن هناك من مفر سوى أن يقولها الملك فهد صراحة للرئيس ريجان: لا بد للجانب السعودى من معرفة كلمة الرئيس ريجان قبل أن تدور الكاميرات، بعدها فقط صدقت توجسات الملك السعودى بانكشاف السر فى عدم إطلاعه مسبقا على كلمة الرئيس ريجان، لقد تبين أن الخطاب المكتوب ينتهى بمناشدة قوية من الرئيس الأمريكى إلى الملك السعودى بأن يمد يده إلى شيمون بيريز رئيس الحكومة الإسرائيلية (فى حينها). وفى لحظات تكهرب الجو وكلف الملك فهد مساعديه بتدارك الموقف.. فتشاوروا مع ماكفرلين مستشار ريجان للأمن القومى، وانتهت المسألة بأن جرى حذف كل كلمة الرئيس ريجان ما عدا سطورها الأولى والأخيرة المعبرة تقليديا عن الترحيب بالضيف الزائر.
التركيز الأمريكى المبكر هنا على تطبيع عربى مع إسرائيل بدأ بإيماءات سياسية عالية المستوى، وتأتى السعودية هنا فى المقدمة، لا يمكن فهمه إلا فى إطار الانحياز الكامل لإسرائيل فى سعيها لقلب الأولويات، فبدلا من أن تصبح القضية هى انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة تتحول إلى «تشجيع إسرائيل» من خلال تنازلات عربية مبكرة.. بدءا بالإعلام أمام الكاميرات،. بعد انسحاب إسرائيل من سيناء، مثلا احتفظت بكيلومتر واحد من الأرض فى طابا لمجرد الاحتفاظ بورقة ضغط إضافية على مصر، هناك معاهدة صلح وقعتها إسرائيل مع أنور السادات زائد 22 اتفاقية تكميلية غير معلنة لتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل فى شتى المجالات. ومع ذلك فحينما وقعت إسرائيل مع مصر فى سنة 1986 على اتفاقية لبدء المفاوضات المشتركة بشأن طابا أصرت فى البند الثالث عشر من الاتفاقية على أن «يعمل الطرفان على منع الدعاية المعادية لكل منهما فى بلد الآخر، مع العمل على إبراز كل دولة فى وسائل إعلام الدولة الأخرى»!
مثل هذا النص سوف نجده تاليا فى صفحات بدلا من سطور.. وبشكل أكثر تفصيلا وفجرا فى اتفاق أوسلو (1993) وتوابعه بين إسرائيل وما يسمى «السلطة الوطنية الفلسطينية» التى هى فى حقيقة الأمر مجرد حكم ذاتى محلى ومحدود تحت إشراف الاحتلال الإسرائيلى، فى أحد النصوص مثلا تتعهد تلك السلطة الفلسطينية بوقف التحريض على العنف (ضد إسرائيل) فى إعلامها وخطابها السياسى وكتبها المدرسية. عمليا أصبح هذا يعنى مثلا أن أى تناول لإسرائيل كقوة احتلال هو تحريض على العنف وخرق للتعهدات.وأصبح الحرص الإسرائيلى واضحا على أن تتلازم المفاوضات مع لقاءات عالية المستوى مع حميمية تنقلها الكاميرات حول العالم يبدو فيها رئيس السلطة الفلسطينية كما لو كان رئيس دولة، أو مقدمات دولة، حصلت لتوها على الاستقلال، وفى إحدى المرات، بعد كل التسويق الإعلامى المكثف لاتفاق أوسلو وتوابعه بعد أن أعلنت بنازير بوتو رئيسة وزراء باكستان حينئذ أنها قررت أن تزور الرئيس عرفات فى «فلسطين المحررة» تشجيعا للسلام البازغ لتوه بين إسرائيل والفلسطينيين، يومها بادر رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين وقتها بالخروج أمام الكاميرات ليعلن فى فظاظة وبصريح العبارة: يبدو أن رئيسة وزراء باكستان لم تقرأ جيدا نصوص اتفاقاتنا مع السلطة الفلسطينية لأنها لو كانت قرأتها لعرفت أن زيارتها إلى أى جزء من أراضى السلطة يتطلب أولا حصولها من إسرائيل على إذن بذلك كتابيا، يومها ابتلعت رئيسة وزراء باكستان الإهانة وتراجعت فورا عن فكرتها لسبب بسيط هو أنها لم تعترف أصلا بإسرائيل كدولة.
باكستان لم تعترف، لكن إسرائيل نجحت فى تسويق اتفاق أوسلو وعلاقاتها الحميمة المستجدة مع السلطة الفلسطينية لترسيخ انطباع بأن الصراع الإسرائيلى الفلسطينى انتهى ولم يتبق منه سوى خلافات عقارية على كيلومترات هنا وهناك، ونجحت إسرائيل تماما بدعم أمريكى غير مسبوق فى الترويج لتلك الصورة دوليا بحيث أنه فيما بين 1993 و1996 ارتفع عدد الدول المعترفة بإسرائيل من 85 دولة إلى 161 دولة، يعنى 76 دولة إضافية اعترفت بإسرائيل لأول مرة بعد طول مقاطعة بفكرة أنها لن تصبح فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، دول من بينها من بحجم الصين والهند والبرازيل التى اعتادت سابقا التضامن مع الموقف العربى المستقر منذ مؤتمر باندونج فى 1955 برفض الاعتراف بإسرائيل إلى أن تتم التسوية العادلة للقضية الفلسطينية ويحصل الشعب الفلسطينى على حقوقه السياسية كاملة.
والآن هناك خشية من اتجاه أمريكا إلى التركيز على موجة جديدة من التطبيع العربى مع إسرائيل.. ليس مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة كما تقول المبادرة العربية ولكن فقط مقابل تجميد التوسع الاستيطانى الإسرائيلى، مؤشر الخطر هنا جاء عرضا فى خطاب الرئيس أوباما من القاهرة فى الرابع من يونيو الماضى حينما رأى أنه على العرب أن يعتبروا أن المبادرة العربية «بداية مهمة لمسئولياتهم وليس نهايتها».
وإذا لم يكن العرب جاهزين وموحدين بخطوطهم الحمراء مقدما فستتم جرجرتهم إلى موجة جديدة من التنازلات المجانية، ولنتذكر مثلا أنه فى نوفمبر الماضى جرى نشر حملة إعلانية مكثفة بالصحف العبرية والعربية والأجنبية تكلفت ملايين الدولارات، جملة لا تشرح مزايا المبادرة العربية لإسرائيل فقط ولكن تبشر أيضا بالتزام مماثل من جميع الدول الإسلامية، والإعلان فى كل مرة محاط بأعلام وأسماء 56 دولة إسلامية زائد علم الجامعة العربية وعلم منظمة المؤتمر الإسلامى، لقد بدت الفكرة من ذلك الإعلان الساذج إقناع المواطن الإسرائيلى بسخاء وكرم الدول العربية والإسلامية فى حالة السلام، وبعدها بشهر واحد جاء رد إسرائيل بحربها المتوحشة على غزة، وبعدها بشهرين جاء الناخب الإسرائيلى إلى السلطة بحكومة أكثر تطرفا وإرهابا ورفضا ومراوغة .. فيما ينذر بموسم للمراوغات يدق الأبواب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة