«لدى سبب واحد للعودة إلى مصر بعد كل هذه السنين.. وهو البحث عن جذورى وأصولى».. حلم راودها على مدار سنين طوال فصلت ما بين رحيلها مع والديها من القاهرة إلى باريس ثم نيويورك ثم عودتها مرة أخرى فى زيارة قصيرة للقاهرة.
إنها لوشيتا لجاندو الكاتبة الصحفية الأمريكية الجنسية المصرية الأصل.. هى ابنة واحدة من العائلات اليهودية المصرية التى ضاق بها العيش فى مصر بعد تغيير الظروف السياسية، فكان أمامها خياران.. الهجرة لإسرائيل أو لأمريكا سعيا وراء الحلم الأمريكى، لكن والدها السورى المولد المصرى النشأة فضل الخيار الثانى.
لوشيتا رحلت من القاهرة وهى مازالت طفلة عام 1963 لا تملك الكثير من الذكريات عن مصر سوى الشعور المؤلم لطفلة أصبحت «فجأة لأسباب غير معروفة محرومة من الذهاب مع والدها إلى الكافيه الذى أحبه كثيرا بفندق النيل هيلتون على كورنيش النيل».
«اليوم السابع» التقت لوشيتا خلال زيارتها إلى القاهرة التى نظمت خلالها حفل توقيع لكتابها «الرجل ذو البدلة البيضاء» وتروى فيه قصة والديها منذ صغرهم ورحيلهم من مصر وحتى موت والدها فى الولايات المتحدة وهو يصرخ «رجعونى مصر».
العائلة انتقلت فى البداية إلى باريس التى تصفها بأنها «كانت ترانزيت مؤقتا لليهود العرب، لحين اتخاذ القرار المصيرى إسرائيل أم أمريكا؟».
إسرائيل كانت اختيارا صعبا، فهى المكان الأنسب الذى سيستقبل اليهود الذين يشعرون أنهم منبوذون من العالم كله، لكنها كانت خطرا فهى مهددة بالحرب فى أى وقت.. وجميع الذكور الذين يذهبون يتم تجنيدهم فى الجيش.
الوصول إلى أمريكا لم يحقق أحلام أسرة لوشيتا.. «أبى وأمى خدعهم الحلم الأمريكى وسحقتهم الحياة فيها، ولم يستطيعا التكيف مع الحياة الجديدة هناك. خاصة أن أبى كان شرقيا للغاية وشديد التدين ومتمسكا بالعادات والتقاليد، كان هذا يثير غضب الإخصائية الاجتماعية اليهودية التى كانت تتابع المهاجرين اليهود فى أمريكا وتدعى الآنسة كوشنر، وعندما عرضت عليه أن تعمل أمى لتساعدنا فى باريس فرفض وقال إن المرأة مكانها البيت.. وأكثر ما يستفزها كان استخدامه كلمة الله أكبر». والدها كان يعتبر الهجرة «كارثة وليس فرصة» كما تقول لوشيتا «فوالدى تحول من رجل أعمال ثرى لديه ما يكفيه من المال ليعبث فى ليالى القاهرة، إلى بائع أقمشة بمحل صغير بأمريكا».
الكتاب بالنسبة للوشيتا أكثر من مجرد «سرد للسيرة الذاتية»، لكنه محاولة للتصدى لمحو جزء من التاريخ، «فالمجتمع اليهودى فى مصر تم محوه من على وجه الأرض. فالشرق الأوسط كان يعيش به 800 ألف يهودى لا يعرف أحد عن تاريخهم شيئا.. لذلك عندما نشرت مقتطفات من كتابى بجريدة «وول ستريت جورنال» تلقيت مكالمات من جميع أنحاء العالم من يهود مصريين وعرب أبدوا سعادتهم بالكتاب وبعضهم حكى لى قصص رحيله من بلده الأصلى.
خلال الكتاب الذى يوثق حقبة هجرة اليهود من الشرق الأوسط - بأسلوب روائى -ألقت لوشيتا الضوء على قصص اليهود العرب المهاجرين قدرتهم هى بما يتجاوز المليون يهودى، وعن المعاناة التى عاشوا فيها تقول «الهجرة لأغلبية اليهود العرب كانت تعنى الفقر والاحتياج والأمراض والغربة والموت أيضا».
لوشيتا تعتبر نفسها مصرية، وتقول: «كان من العار على أن أتنكر لهذا.. وعلى العكس كنت أتمنى دائما أن أعود للبحث عن جذورى وأصولى المصرية.. فأمى تربية حوارى السكاكينى.. وأبى كان من رجال الأعمال الشباب الناجحين وارتبط بعلاقات كثيرة وواسعة مع الشخصيات البارزة فى المجتمع المصرى وقتها». وتروى لوشيتا أن والدها تلقى دعوة للسهر مع الملك فاروق فى أحد الملاهى الليلية وجلس يلعب معه البوكر.. وعندما كان والدها على وشك أن يفوز على الملك..أوقفه فاروق وأظهر ثلاثة كروت لعب فئة الملك الرواى أو الشايب وقال «أنا أفوز لدى 4 كروت رواى».. فاعترض والدها وقال «لكنهم ثلاثة فقط».. فضحك الملك بشدة قائلا: «نعم ثلاثة وأنا رابعهم».
الحياة فى القاهرة اختلفت تماما عما كانت عليه قبل هجرة الأسرة اليهودية كما ترى لوشيتا التى فوجئت خلال زيارتها لمصر بعد 26 عاما من الرحيل أن «مظاهر الحياة المتعددة الثقافات اختفت. عندما كنا نجلس فى مقهى كان يجلس حولنا أشخاص من جميع الجنسيات والأديان. وحتى مظاهر الحياة المنفتحة اختفت من ليالى القاهرة».. لكن القاهرة احتفظت بـ«كرم المصريين ومودتهم».
لا يوجد شىء فى الدنيا يغنيك عن الإحساس بدفء الوطن حتى اليهود المصريين الذين هاجروا إلى إسرائيل لم يكن بالنسبة لهم قرار جيد، فحتى فى هذه الدولة التى لا تفصلها عن مصر سوى ساعة واحدة ويربطهم نفس البحر المتوسط كانوا يشعرون بغربة شديدة ويريدون العودة إلى وطنهم الأصلى.
سألتها عن خططها القادمة فقالت: «أعتقد أن الزمن يعود بى إلى الوراء وأنا الآن أمام اختيارين العودة للاستقرار فى مصر أو ربما إسرائيل».