الجنون..تلك الصفة التى تبدو شديدة الالتصاق بالفنانين فى مجتمع لا يعترف كثيرا بالفن والفنانين. محمد فوزى الجمال لم يتهمه أهله بالجنون فحسب، بل ظنوه ممسوسا بالجن، خاصة بعد أن ترك كلية الزراعة بعد عامه الأول ليدرس الأنثربولوجى فى كلية الآداب، لتنهار مع تلك الخطوة أحلام الوالدين فى أن يروا ابنهم موظفا، وفى نهاية المطاف كان يبدو فى نظرهم مجرد باحث فى مجال يصعب حتى التفوه باسمه.
لسنوات طويلة، ظل الجمال تائها بين الطريق التقليدى الذى يرسمه له والداه، وبين طريق الفن والحواديت الذى رسمه بخياله وعاش فيه قبل أن يقرر أن يحوله إلى واقع معاش على أرض سيوة.
"فنان تشكيلى يقدم ورشا فنية للأطفال"، ذلك هو الإعلان الذى نشره الجمال فى إحدى الجرائد بحثا عن العمل، وفى أقل من أسبوعين كانت أجندة مواعيده قد ازدحمت عن آخرها، وبدأ يقنع أولياء أمور الأطفال بأن الفن ليس مضيعة للوقت، بل أداة فعالة لاكتشاف مواهب أولادهم والتعرف على قدراتهم عن قرب، حيث كان الدور الذى يلعبه هو تحفيز الطاقات الإبداعية للطفل.
اكتسب الجمال الكثير من خلال تعامله مع الأطفال، حيث علموه كيف يتعامل معهم، بداية من طلبة المدارس الأمريكية، وحتى أولاد الشوارع الذى وجد بينهم متعة خاصة "أنا شايف نفسى شبههم" فلم يجد الجمال ما يوصم هؤلاء الأطفال، فكل مشكلتهم أنهم غير قادرين على التواصل مع أهلهم، فهربوا إلى الشارع، ورأى فيهم موهبة ونتائج لا يمكن مقارنتها بأبناء المدارس الأمريكية الذين لم يتعودوا أن يبذلوا أدنى مجهود لفعل أى شىء.
حين وقعت عينا الجمال لأول مرة على أرض سيوة، سحره المكان وأيقن أن ذلك المكان سيحتضن مركزه الثقافى الذى أطلق عليه "موتوبيا"، ليبدل الحرف الأول من يوتوبيا بأول حرف من اسمه لتكون وسيلته الأولى للتغيير، وإضافة بصمته الخاصة على الحياة.
أمام جبل الدكرور، اختار فوزى الجمال بيتا مهجورا منذ أكثر من 25 سنة، ليكون مقرا لبيت موتوبيا، حيث نظم معرضا للفن الحديث كأول فعاليات البيت ليشاهد أهالى سيوة لأول مرة معرضا فنيا على أرضهم.
أطفال سيوة لمس فيهم الجمال اختلافا شديدا عن الأطفال الذين تعامل معهم، حيث يحملون ثقافة مختلفة ولغة أمازيغية تبدو شديدة الاختلاف عن العربية التى يتعلمونها فقط بعد التحاقهم بالمدارس، استغل ذلك الاختلاف ليقدم لهم فنا يتناسب مع البيئة التى يعيشون فيها، فكانت فكرة ورش إعادة التدوير التى يمكن من خلالها أن يصنع الأطفال من خلالها لعبا بسيطة فى نفس الوقت الذى يتعلم فيه المبادئ المبسطة للعلوم.
بيت أزياء موتوبيا، من المشروعات التى حلم بها وبدأ فى تنفيذها، لكنها لم تكتمل بسبب التمويل، فالدراسات التى أجراها حول اللغة الأمازيغية خلال العشر سنوات الماضية لفتت الانتباه، إلى أن الوحدات التطريزية والزخرفية فى الأعمال اليدوية السيوية، ما هى إلا حروف اللغة السيوية المندثرة واستخدمها فى ابتكار أشكال جديدة من الرسومات.
إلى جانب ذلك، استطاع الجمال أن يجمع 13 قصة من الأساطير القديمة فى سيوة ليحكيها إلى أطفال الواحة، ويتولى طباعتها وتوزيعها ونشرها وتغليفها يدوياً.
"مصنع للعب الأطفال"، هو الحلم الذى يتمنى الجمال أن يحققه يوما ما، لكنه ليس كالمصانع المعتادة، حيث العمال من الأطفال أنفسهم الذين يصنعون الألعاب، وكأنهم يلعبون ليلبى العائد المادى احتياجاتهم. "آمنت بفكرة وسأقاتل من أجلها، ولن أترك سيوة إلا بعد أن يقف المشروع على قدميه"، قال فوزى الجمال فى إصرار رغم أنه لا يملك التمويل الكافى للمشروع، ومازال ينفق على الأنشطة المجانية التى يقدمها للأطفال من عائد رسوماته الشخصية التى يبيعها بنفسه.
