عرفته قبل سنوات قليلة وياليتنى عرفته قبل ذلك بكثير، ذلك هو الدكتور بدر الدين غازى عطية أحد علماء مصر فى مجال الكيمياء وهو أحد القلائل الحاصلين على درجة دكتوراه العلوم DSc وهى درجة علمية بعد درجة دكتوراه الفلسفة المعروفة اختصارا بـPhD، وهو اأيضا رئيس سابق لنادى أعضاء هيئة التدريس فى جامعة القاهرة فى عصرها الذهبى فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى.
وبعيدا عن التفوق العلمى الذى جعله رمزا للعالم المصرى أينما حل أو رحل فى مصر وأمريكا ودول مجلس التعاون الخليجى فقد عرف الدكتور بدرالدين غازى بالتواضع الجم والأدب الشديد مع الجميع بدءا من تلامذته وانتهاء بأساتذته ومرورا بزملائه.
عرفته وشرفت بصحبته وتمنيت أن يطول الوقت لأنهل من علمه وسعة اطلاعه وخبراته المتنوعة وافكاره المبدعة وأتعلم من جميل خلقه وسعة صدره وكريم حلمه وعظيم كلماته على قلتها.
كان الدكتور بدر الدين غازى يجيد فن الاستماع والإنصات بشكل لافت للنظر، لكنه إذا تكلم أثر فيمن حوله وأجبر الجميع على الإنصات الجميل للاستفادة من خبرة الرجل المتنوعة فى العلم والسياسة والتربية وفنون الحياة.
نال الدكتوراه من أمريكا ودرس فى جامعاتها وعلى يديه تخرج العديد من طلبة الماجستير والدكتوراه فى أمريكا ومصر والعالم العربى، وكانت له خبرة كبيرة فى فهم الواقع الأمريكى، وكان يرى أن الساسة العرب ليسوا ملمين بالحياة السياسية فى أمريكا وأننا نحن- العرب- لم نتعلم بعد كيف نخاطب الرأى العام والنخب الأمريكية.
كان يرى أن فرصة العرب بما يملكون من كفاءات علمية وثروات كبيرة بشرط أن يتحسن التعليم ويتم تطويره وقد شارك فى نقاشات لتطوير التعليم لكن تلك النقاشات توقفت لأسباب سياسية منذ ربع قرن، وكنت أجد الحسرة فى عيون العالم الكبير وهو يتحدث عن نظم التعليم المتخلفة فى العالم العربى.
وعلى الجانب الاجتماعى فالدكتور بدر الدين غازى كان بسيطا إلى الدرجة التى لا يمكن معها أن تصدق أن هذا الرجل أحد العلماء الكبار فى مصر والعالم العربى، كان كلما شرفنى بزيارة فى بيتى يأتى وفى يديه بعض الهدايا البسيطة لأبنائى الصغار الذين يقوم بحملهم واللعب معهم والغناء لهم وكنت أشعر بالفخر أن عالما مثل هذا يلهو ويلعب مع أبنائى وأقول فى نفسى أى تواضع هذا؟!، ويعلم الله أنه كان يأتينى من عمله بالجامعة إلى بيتى مباشرة وقبل أن يأتى يقول "أنا جاى علشان اشرب معاك الشاى وأشوف زينة"؛ ابتنى الصغيرة التى تعلقت به جدا ولا أدرى حتى الآن ماذا أقول لها لو سألتنى "جدو بدر فين يا بابا"
وعلى الجانب الإنسانى فقد كان الدكتور بدر الدين غازى يساعد طلبة الماجستير والدكتوراه بالمال لكى يكملوا دراستهم وكان يقول: نفعل معهم ذلك ليفعلوه مع غيرهم ممن لا يستطيعون إكمال تعليمهم ولتكون سنة حسنة تسرى فى الجسد التعليمى.
كان يرى أن الطلبة والباحثين هم الثروة الحقيقية لمصر وكان يفخر بتلامذته ودائما ما يذكر أسماءهم مسبوقة بكلمة أحد أبنائى وتلامذتى.
كان دائما يحدثنى عن مستقبل مصر وضرورة الإصلاح وأهميته، وقليلا ما حدثنى عن فترة رئاسته لنادى أعضاء هيئة التدريس فى جامعة القاهرة رغم أنها فترة مهمة فى تاريخ السياسة والعمل النقابى فى مصر ولكنه كان يرى أن العمل السياسى يحتاج إلى حنكة وصبر وأناة ولم يكن يدعو أبدا إلى صدام بل يميل إلى اللين فى الكلام ويرفض الشعارات والنيل من الآخر حتى فى أشد ساعات الخصومة.
كان يعتقد أن المؤسسات المحترمة هى تلك التى تتمتع بفكر إدارى متطور ووعى سياسى يمكنها من التعامل الواقعى وبكفاءة مع المعطيات والمتغيرات.
تعلمت من الدكتور بدر غازى الكثير من فنون الحياة، ومرة أخرى فقد شرفت بصحبته وصداقته، وحين أصابه المرض اللعين وأدرك أنه مفارق لا محالة كانت لديه الرغبة فى التخلص من كل أعباء الحياة وهو على قيد الحياة وقبل أن يرحل كان يصر أن ينهى دراسات طلابه وهو على فراش المرض حتى لا يضيعوا من بعده.
واسيته فى مرضه فكان شديد التماسك والصبر وكلما ألححت عليه فيما يمكننى أن أفعله من أجله، كان يقول لى "ادع الله أن يثبتنى فى هذه المحنة" وساعتها فرت من عينيه دمعة وانهمرت الدموع من عينيى حزنا وألما على فراق متوقع لعالم بسيط من ريف مصر العظيمة
آخر السطر
سأفتقدك أيها العالم الكبير حقا
سأفتقد كلماتك المنيرة
ونصائحك المرشدة
سأفتقد ابتسامة وجهك الرقيقة
وروحك الوثابة
ولسانك العف
وتواضعك الجم
أسأل الله أن تكون الجنة مثواك
بما قدمت من علم وعمل
وصبر على مصيبة المرض
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة