اعتباراً من غدٍ الأحد وحتى نهاية الأسبوع، سأتوقف عن الكتابة والقراءة لمدة خمسة أيام كاملة أقضيها فى الساحل الشمالى مع أسرتى، بعد عامين من العمل الشاق، وعموماً الإجازة فرصة لالتقاط الأنفاس، وإعادة شحن الطاقة، والحصول على بعض التأمل، والدخول إلى مرحلة "تنفيض الدماغ" كما يقول الشباب، قبل العودة مرة أخرى.. وبالنسبة للقراء قد تكون الإجازة فرصة للراحة من كاتب مزعج بعض الشىء يدمن الكتابة اليومية ويستفز قراءه فى أحيان كثيرة.
خمسة أيام فى الساحل الشمالى فرصة لأصدقائى القراء ليلتقطوا أنفاسهم من وجع الدماغ الذى أسببه لهم بشكل يومى، وإن كان الأمر يختلف معى بالتاكيد، وأقولها بمنتهى الصراحة سأفتقد كل الأصدقاء الذين يعلقون على مقالاتى فى اليوم السابع، كما سأفتقد أيضا حالة الجدل اليومية التى أعيشها مع قراء اليوم السابع، وأعترف بأنها مختلفة جداً عما عشته من قبل لأنها المرة الأولى التى أطبق فيها الإعلام التفاعلى، كما جاء فى النظريات الحديثة للإعلام.
ولأن الساحل الشمالى الغربى سيكون محطتى فى الأيام الخمسة المقبلة، فلا مانع من الحديث عن المكان، الذى رأيته لأول مرة فى حياتى عام 1984 حينما أديت الخدمة العسكرية فى المنطقة الغربية، وكنت أسافر كثيرا على الطريق الساحلى، وكان عبارة عن رمال بيضاء ناعمة من بعد العجمى حتى السلوم، لا يقطعها سوى قرية مراقيا، وبعض المدن الصغيرة من مطروح حتى السلوم.
ومنذ هذا التاريخ تكونت لدى قناعة بأن مستقبل مصر العمرانى فى هذه المنطقة البكر، وأن حلم الخروج من الوادى الضيق، والتغلب على مشاكل التكدس السكانى لا سبيل لها سوى فى هذا المكان، تماماً كما فعلت أمريكا مع ساحلها الغربى، لكن للأسف مرت السنوات، واختفى حديث التنمية وتحول إلى شريط من القرى السياحية الملاصقة للبحر تمتد أكثر من مائتى كيلو متراً من غرب الإسكندرية وحتى مرسى مطروح.
مئات القرى السياحية تدب فيها الحياة كل صيف لمدة أربعة أشهر فقط، ثم سرعان ما تتدخل حالة موات تمتد ثمانية أشهر كاملة، بحيث لم يعد باقياً "خرم إبرة" على البحر المتوسط للخروج من الوادى والتمدد غربا.
وكلما قرأت عن مشروعات لتنمية الصحراء الغربية مثل مشروعات الدكتور فاروق الباز، أو الدكتور رشدى سعيد، أشعر بالغضب الشديد لأننا فوتنا فرصة تاريخية لاستغلال هذا الساحل الطويل والجميل، والذى يرتبط بطريق سريع وخطوط أنابيب مياه وخدمات فى خلق تجمعات سكانية جديدة كان يمكن أن تحل مشاكل مصر.
وبدلا من الظهير الصحراوى وتعمير الصحراء، وتوشكى وشرق العوينات، وغيرها من المشروعات، كان فى استطاعتنا تدشين عدة موانى على الساحل الشمالى الغربى، وإقامة مجتمعات صناعية وزراعية وتصدير ومدن سكنية جديدة تعيد تشكيل خريطة مصر بشكل مختلف.
لكن لأننا وكالعادة ليس لدينا أية رؤية مستقبلية للوطن، ونتعامل مع كل مشكلنا بالقطعة، فقد أهدرنا الساحل الشمالى الغربى حتى مطروح، وحولناه إلى قرى سياحية ميتة معظم العام، ولم نفلح حتى فى استغلالها سياحياً، وفى حين أن حركة السياحة على شواطئ البحر المتوسط تصل إلى 300 مليون سائح سنويا لا يصل الساحل الشمالى المصرى سوى عدة آلاف فقط من هذا الرقم الكبير.
وكا فعلنا فى الساحل الشمالى طبقنا نفس الاسترتيجية البغيضة فى سيناء وعلى شواطئ البحر الأحمر، وتم احتلال كل الشواطئ المصرية التى تمتد لآلاف الكيلومترات، بحيث أهدرنا أعظم نعم ربنا علينا.. وقد لا نشعر بحجم المشكلة الآن، لكن الأكيد أن الأجيال القادمة التى ستجد نفسها محاصرة بين الدلتا والصحراء، لن تترحم علينا فى يوم من الأيام وإنما ستصب اللعنات على الأجيال السابقة التى أهدرت الثروات المصرية الطبيعية بقدر لا تحسد عليه من الغباء منقطع النظير.. أشوفكم بعد الإجازة!