◄نحن أمام رواية ضعيفة باطلة تقلبت فى بطون الكتب طوال قرون واستقرت فى الوعى المسلم لتكون بناء شاهقا فى العقيدة وهى على جُرف هار لا يستقيم
◄النص الذى اعتمده التراثيون 13 قرنا بحديث منسوب إلى النبى [ يؤسس لفكرة الفرقة الناجية
◄الوعى المسلم مازال تائها بين روايات باطلة أخرجها قوم من أهل الحديث وبين آخرين دافعوا عنها لأغراض شخصية
لم يكن الإسلام فى عصر النبوة يعرف الانشقاق على أساس الفكر والعقيدة، بل كان غاية ما فى الأمر هى العصبية للقبيلة التى كانت آنذاك لاتزال حديثة عهد لم تذب ولم تتوار خلف مفهوم الأمة الواحدة, من أجل ذلك كان القرآن محددا وقاطعا فى تبيين العلة ثم تحديد الدواء, فنزلت الآيات تترى على تأكيد الوحدة والعصمة دون النظر للقبيلة والعشيرة «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» آل عمران 103, «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ», فلما توفى رسول الله وحتى مع إطلالة الفُرقة السياسية مع نهاية عصر الخلفاء لكنها لم تؤد بحال إلى تغيير جذرى فى مفهوم الوحدة الإسلامية على أساس العقيدة إلا بعد ظهور الخوارج الذين كفَّروا الصحابة ثم قتل الخارجى الملعون «عبدالرحمن بن ملجم» أمير المؤمنين «على بن أبى طالب» بدعوى قتل أئمة الضلال, ومن هنا كان التحول الفكرى الأكبر فى تاريخ الإسلام، حيث بدأت مع الخوارج أولى المحاولات الفارقة لنشر ذهنية وقاعدة «الفِرْقة صاحبة الحق المطلق» حيث كان الخوارج أو «الشراة» مشهورين بكثير الصلاة ووصال الصوم, ولكن ذلك لم يمنعهم أن يقتلوا الصحابة, ما تأدى بهم فى النهاية إلى الاعتقاد- الذى زرعوا هم بذرته وكانوا أول حاصديها- أنهم أقرب المؤمنين للحقيقة وأتقى المسلمين لله، وكان ذلك أول مفهوم محقق لـ«الفرقة الناجية».
ولأن الاختلاف سنة كونية فقد تشكلت الفرق الفكرية والعقدية والفلسفية فى الإسلام تباعا بعد انقراض عصر كبار الصحابة, ولا شك أن كلاّ منها كان يدعى الحق لنفسه, ولكن ذلك لم يستدع بالضرورة إعادة تخليق ذهنية الحق المطلق وتكفير الفرق الأخرى ووصمها بالفرق الهالكة إلا مع التحول الثانى الهام فى مفهوم الوحدة الفكرية الإسلامية، حينما ظهر فى نهاية القرن الرابع الهجرى جيل من الحنابلة كانت غايتهم -كما زعموا- أن يعيدوا التصور الأول للعقيدة الإسلامية على مذهب السلف الصالح, وذلك هو بداية البعث الثانى لذهنية وقاعدة الفرقة الناجية مع اتخاذها منحى جديدا حيث أصبح نفى الفرق الأخرى وتكفير العلماء, بل وتكفير عامة المسلمين دأبا لهؤلاء الحمقى الذين اعتقدوا أنهم وحدهم يعبدون الله على العقيدة الصحيحة فأساؤوا للإسلام وللمذهب الحنبلى فى آن.
ثم استمر سيف الحق المطلق مشهرا بلا هوادة منذ ظهور هؤلاء وحتى اكتمال ذروته مع ظهور «ابن تيمية الحرانى» فى القرن السابع الهجرى, الذى كان دأبه إعادة تدوير وإنتاج ما فعله الحنابلة فى القرن الرابع, حيث أصبحت كل الفرق من بعده هلكى, وأخذ «ابن تيمية» على عاتقه ما بشر به من استلهام العقيدة الصحيحة-بزعمه-التى كان يتعبد بها السلف الصالح فى الكلام حول الذات الإلهية والصفات والأسماء الحسنى, فأتى «ابن تيمية» بالعجائب التى ما زال الخرقى يدعون إلى يومنا أنها العقيدة السليمة القويمة للإسلام- ولعلنا نفرد مقالا فى ذلك ونبين ما فعله العلماء الصادقون فى الرد على العقيدة «التيموية» مثل الإمام «السبكى» وغيره-، والخلاصة أن «ابن تيمية» كما ذكرنا أكد وشدد على ذهنية «الفرقة الناجية», واستمر هذا المفهوم الغائر فى الوعى المسلم إلى يومنا مع أحفاد «الفرقة الناجية» الذى ابْتُلى بهم المسلمون.
ولكن الإشكالية الحقيقية لا تكمن بالضرورة فى مفهوم الفرقة الناجية ولكنها ترجع إلى النص الذى اعتمده التراثيون لثلاثة عشر قرنا بحديث منسوب إلى النبى [ يؤسس لهذه الفكرة ويزكيها.
وقد قلنا فى مقالنا «تاريخ الإصلاح الدينى» «وعلى هذا المنوال أصبح إلقاء الاتهامات فى الدين والعقيدة إرثا وعادة ثقافية إسلامية متأصلة, نتيجة لمفهوم الفرقة الناجية، وهو بالمناسبة حديث ضعيف, ولم أسهب فى تبيين أوجه الضعف فى الحديث حيث كان السياق لا يحتمل تفرعا, ولكن ها نحن نفرد مقالا خاصا لهذا الحديث المنسوب للنبى لنرى كيف تشكَّل وما زال يتشكل الوعى المسلم قديما وحديثا على الثقافة السمعية فقط.
حديث الفرقة الناجية وافتراق الأمة:
أولا:
حديث الفرقة الناجية لم يخرجه أصحاب الصحيحين, وكما نؤكد دوما أنه ليس كل ما فى الصحيحين أحاديث صحيحة, نؤكد أيضا أن شرط رجال الصحيحين هو بلا شك أفضل حالا مما دونهم من كتب السنن والمسانيد, فكيف يغفل رجلا الصحيح عن إخراج حديث بذات الأهمية حيث يعتبره من يوافق هواه هو الحديث العمدة فى التفرقة بين فرق الإسلام, لذا فإن عدم قبول الحديث بشرط الصحيحين هو دليل أول على ضعفه.
ثانيا:
يروج البعض أن حديث افتراق الأمة حديث متواتر ظنا منهم أن شهرة الحديث على الألسنة أو كثرة طرق تخريجه من كتب إنما يكسبه صفة المتواتر, وهذا كلام فاقد الهوية حيث لا ريب أن حديث افتراق الأمة بكل رواياته وطرقه إنما هو حديث آحاد-بافتراض صحته- لا يقام عليه عقيدة كما نص علماء الصدق قديما وحديثا.
ثالثا:
الحديث ورغم كثرة ألفاظ روايته إلا أن ما ادعى الأوائل صحته هما طريقان فقط فى السند وكذلك لفظان فى المتن-النص-لا ثالث لهما:
فأما الأول: «حدثنا الحسين بن حريث, حدثنا الفضل بن موسى, عن محمد بن عمرو, عن أبى سلمة, عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِين فِرْقَةً. وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ. وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».
وهذا اللفظ أخرجه الترمذى (2640), أبوداود (4598), ابن ماجه (3991), كما أخرجه الكثير من أصحاب السنن والمستدركات, وأخرجوه جميعا من طريق واحدة لذات الراوى وهو «محمد بن عمرو بن علقمة».
أما الحديث الثانى: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا بقية, قال: حدثنى صفوان بن عمرو, حدثنى أزهر بن عبدالله الحرازى, عن أبى عامر الهوزنى, عن معاوية بن أبى سفيان أنه قال: قام فينا رسول الله فقال: «إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَ افْتَرَقُوا فِى دِينِهِمْ عَلَى اثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّة كُلُّهَا فِى النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ».
وهذا اللفظ أخرجه أبوداود (4599), وأحمد والطبرانى والدارمى والحاكم وغيرهم, وقد أخرجوه جميعا من طريق واحدة لذات الراوى «أزهر بن عبدالله الحرازى».
مناقشة سند الحديثين:
السند الأول: مداره فى كل تخريجات الحديث على «محمد بن عمرو بن علقمة» فمن هو هذا الراوى؟، هو: «محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثى المدنى», وهو راو مجروح عند علماء الرجال, فنرى المزى ينقل: «قال على بن المدينى: قلت ليحيى بن سعيد-القطان-: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: لا بل أشدد، قال: ليس هو ممن تريد», «وقال يحيى: سألت مالكا عن محمد بن عمرو فقال: فيه نحوا مما قلت», «وقال إسحاق بن حكيم: قال يحيى القطان: وأما محمد بن عمرو فرجل صالح ليس بأحفظ الناس للحديث», «وقال أبوبكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين عن محمد بن عمرو، فقال: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له، و ما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبى سلمة بالشىء من رأيه ثم يحدث به مرة أخرى عن أبى سلمة، عن أبى هريرة», «وقال الحافظ فى «تهذيب التهذيب» 9/376: وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو, وقال البيهقى: «قبل أهل العلم حديثه فيما لا يخالف فيه أهل الحفظ».
إذن نحن لسنا فقط أمام راو ضعيف مجروح عند كثير من أهل الحديث, ولكن ما يسترعى الانتباه أن «يحيى بن معين»-كما ذكرنا- قد حدد علة ضعفه فقال: «كان يحدث مرة عن أبى سلمة بالشىء من رأيه ثم يحدث به مرة أخرى عن أبى سلمة، عن أبى هريرة», وهذا السند الذى تكلم فيه «ابن معين» هو ذات السند الموجود فى الحديث, فالسند فى كل تخريجات الحديث هو «محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة» ما يدفع بيقين لا مراء فيه أن تلك الرواية مظنونة ومعدودة عند العقلاء من جملة الروايات التى حذر منها «ابن معين» والمنقولة عن «أبى سلمة» ثم المنسوبة «لأبى هريرة», فما الذى يضمن ألا يكون هذا الحديث مما نقله «محمد بن عمرو» عن «أبى هريرة» وهو ليس كذلك, فكيف نقبل حديث آحاد به علة قادحة ظاهرة فى السند كهذه, لنقرر به أمرا جللا فى العقيدة الإسلامية ألا وهو تفرقها لثلاث وسبعين فرقة, ما يقطع بأن الحديث سندا وبالتبعية متنا-نصا-ضعيف غاية فى الضعف من طريق هذا الراوى «ابن علقمة».
أما السند الثانى: فتضعيفه قد لا يعيينا كثيرا، ولكنه سيكشف بطريق غير مباشرة كيف أخرج التراثيون الحديث وممن يأخذ المسلمون دينهم, فمدار السند فى كل الروايات بهذا اللفظ على «أزهر بن عبدالله» فمن هو إذن, هو «أزهر بن عبدالله بن جميع الحرازى الحميرى الحمصى»، قال الذهبى إن «أزهر» ناصبى, ويقال: هو أزهر بن سعيد, وقال المزى: عن البخارى أزهر بن يزيد وأزهر بن سعيد و أزهر بن عبدالله الثلاثة واحد, وقال ابن الجارود فى «الضعفاء»: كان يسب عليا, وقال أبو داود: إنى لأبغض أزهر الحرازى, ثم ساق بإسناده إلى أزهر قوله: كنت فى الخيل الذين سبوْا أنس بن مالك فأتينا به الحجاج».
إذن نحن أمام راو متهم فى دينه وعقيدته بأبشع اتهام وهو أنه «ناصبى», والناصبى هو من يلعن «عليا بن أبى طالب» ويمتدح قاتله, بل إن «أبا داود» ساق بسنده ما ذكرناه من قول هذا الأحمق إنه كان من بين الخيل الذين سبوْا-أسروا- الصحابى الجليل خادم رسول الله «أنس بن مالك» وجروه جرا إلى الطاغية الكَفَّار «الحجاج بن يوسف الثقفى», فهذا هو الراوى الذى من المفترض أن نأمنه على ديننا وعقيدتنا لنقيم على رواية كاذبة مثله دينا وعقيدة تفرق بين الأمة، بل وتحكم على أغلبيتها بالنار إلا فرقة واحدة, هذا هو الراوى الذى ائتمنه أصحاب السنن وعدلوه فى حفظه، بل إن بعضهم جعل منه «ثقة» فى النقل والضبط, هذا هو الراوى الذى يجاهر بنصبه-عداؤه لعلى بن أبى طالب وأهل بيته- ويأسر صاحب رسول الله «أنس بن مالك» ويجره إلى ولى نعمه «الحجاج», فمثل هذا الأحمق يعدله كثير من أصحاب السنن وعلماء الرجال لينقل للمسلمين دينهم, هكذا كانت عقليات القوم من التراثيين, وهكذا ما تزال عقليات عُبَّادهم إلى يومنا تدافع وتنافح عن ذلك الراوى، لأنهم لا يستطيعون الاستغناء عن روايته الوحيدة-المكذوبة- التى حددت أن كل الفرق فى النار إلا واحدة, فكيف يعيش الوهابيون مثلا من غير هذه الرواية, كيف يسلطون على رقاب العباد إن لم يكونوا هم الفرقة الناجية من النار.
وهكذا بين تدليس الراوى الكذاب وبين مآرب أخرى فى نفوس الفرقة الناجية على مر العصور وصل هذا الحديث الباطل المكذوب على رسول الله إلى عقول ومسامع المسلمين ليكون عقيدة راسخة لا تنفك عندهم, وهذا ما جناه علينا التراث وأهله.
إذن هاتان هما الروايتان قد بينا تهاويهما وضعفهما المتهالك سندا فمدار حديث كهذا فى دين الله يدور ويتقلب فى الكتب والمتون على راويين أحدهما ضعيف والآخر كذاب.
مناقشة متن الحديثين:
الرواية الأولى:
فى الرواية الأولى -رغم ضعف سندها- نجد القول لم يتعد لفرقة ناجية ولا هالكة فقد جاء النص على الافتراق فى الأمة فقط «تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِين فِرْقَةً. وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ. وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».
ورغم ذلك فإن الرواية عن الافتراق تضاد مع صريح آيات القرآن, فالله تعالى يقول: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» آل عمران 110, فمفهوم الخيرية حتى لو أصبح تاريخا يُحكى، إلا أنه يتناقض صراحة مع افتراق الأمة لفرق أسوأ وأكثر من الفرق التى سبقتها فى المِلل السابقة، رغم الخيرية الظاهرة عليهم, وقد أشار لذات المعنى حول المتن الدكتور «القرضاوى» فى كتابه الصحوة الإسلامية, كما أن مفهوم الافتراق حتى ولو لم يودِ لجنة ولا نار، فإن الظاهر من سياق المتن أن الكلام عن افتراق مذموم وليس الاختلاف المعلوم بين عقول وأفهام البشر, وهذا الافتراق المذموم لا يصح بحق هذه الأمة حيث قال الله: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» آل عمران 103, وقال تعالى أيضا: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» الأنفال 46, لذا فلا يستقيم النص مع مجموع آيات العصمة والائتلاف فى القرآن.
الرواية الثانية:
أما الرواية الثانية وعلى تهالك سندها- إلا أنها كانت المطية لأرباب الفرقة الناجية لشهرها سيفا فى وجه المسلمين، لأنها هى الرواية التى وقعت فيها الزيادة التى تخص الجنة والنار, «كُلُّهَا فِى النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ».
وهذا المتن بهذه الزيادة وبدونها هو متن باطل مخالف لما قد بيناه من آيات القرآن الصريحة, أما بطلان هذه الزيادة وحدها ففيه الكثير فهذه الزيادة-الموضوعة-إنما ظاهر جدا للعيان أنها وضعت مضافة للنص الأصلى الضعيف خدمة لأغراض سياسية معروفة ومعلومة للكافة, فما كان رسول الله الذى وصفه ربه القرآن بقوله: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» التوبة 128, ما كان بحنوه وإلفه على أمته أن يترك لهم حديثا يحمل معنى كذات المعنى, أن أغلب أمته داخلين النار لا محالة، وأن فرقة واحدة هى الناجية, ولما من المفترض- أنه سئل عن نعت هذه الفرقة, فقال «الجماعة», وهذا القول فقط يبين ضعف الحديث، ووضع هذه الزيادة وضعا, فالنبى يقر لأمته بأن تُهلك بعضها لمـّا لم تعلم كُنه فرقة «الجماعة» وما أوصافها, فلو كان المقصود بالجماعة العدد فذلك مفهوم باطل لأنه قد تكون جماعة من المسلمين أكثر عددا ونسلا من غيرها من الفرق الأخرى، فيكون بهذا معهم الحق وهم الجماعة، ثم لا يلبث أن يأتى عليهم زمان تنقلب فيه الآية وتصبح جماعة أخرى هى الأكثر عددا ونسلا فهل ينتقل الحق بذلك معها, فهذا مفهوم باطل عقلا وشرعا, ولو كانت كلمة «الجماعة» تحمل مفهوم الفرقة التى يكون أتباعها الغالبين دائما فهذا أيضا مفهوم لا يصح، لأن الغلبة عبر التاريخ الإسلامى فى كثير من عصوره كانت للظالم القوى ولم تكن للعادل الضعيف, فبذلك يكون مفهوم الجماعة مصاحبا دوما للمتغلب بالمنعة والقوة.
وهذا ما يبين ويؤكد أن هذه الزيادة فى النص إنما وضعت من الوضاعين السياسيين، حيث راجت تجارة تحديد الناجى والهالك بالأحاديث المحولة المختلقة كالذى صنعها «هذا الأزهر» راوى الحديث.
ومما يؤكد أيضا علة المتن- النص- فى الرواية أنها تصرح بأن اليهود افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة, ومعلوم أن النبى لا ينطق عن الهوى, ومعلوم أيضا لكل دارسى الديانة اليهودية وتاريخها أن اليهود أبدا لم يفترقوا فى أى حقبة من حقب تاريخهم إلى اثنتين وسبعين فرقة, ولا يقول قائل إن ذلك سيحدث فى المستقبل لأن العقلاء يعلمون لغة أن الرواية قالت «افترقت اليهود» بصيغة الماضى, وهذه العلة فقط بعيدا عن كل العلل التى بيناها سندا ومتنا كافية لبيان ضعف المتن للرواية من أصله.
وقد ضعف هذه الرواية بلفظيها اللذين ذكرناهما ثلة من أهل الصدق والعلم، فمن القدماء ضعف الرواية بالكلية «ابن حزم» فقال: «هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد, وما كان هكذا فليس بحجة عند من يقول بخبر الواحد, فكيف من لا يقول به» الفصل فى الملل (3/292), وضعّف الحديث بروايته العلامة الحنفى «الكوثرى» فى مقالاته, كما ضعّف الحديث وأقر بوضعه العلامة «ابن الوزير» وأشار لذلك الدكتور «القرضاوى» فى «الصحوة» ناقلا قوله: «إياك والاغترار بـ«كلها هالكة إلا واحدة» فإنها زيادة فاسدة, ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة».
إذن:
نحن أمام رواية ضعيفة باطلة تقلبت فى بطون الكتب طوال قرون, واستقرت فى الوعى المسلم لتكون بناء شاهقا فى العقيدة وهى على جُرف هار لا يستقيم, هكذا جنى علينا وعلى عصمة ووحدة الإسلام الآباء المقدسون الذين قبلوا وصححوا هذه الرواية على كل مافيها من ضعف, وهكذا كان وما زال يتشكل الوعى المسلم تائها بين روايات باطلة أخرجها قوم من أهل الحديث, وبين آخرين دافعوا ونافحوا عنها لأغراض تخدمهم وتبشر بجهلهم قديما ومعاصرا, وهكذا ظل الأفاقون والأفاكون من المعاصرين يضللون المسلمين ممسكين بسياط الفرقة الناجية التى تمثلهم، ومنذرين بسوء العاقبة للفرق الهالكة من مخالفيهم, وهكذا يستمر الجهل والتدليس بلا هوادة فى ممارسة دوره المنظم بظهور أحفاد الخوارج على اثنتين وسبعين قناة فضائية كلها هالكة... بلا استثناء.
إسلام بحيرى
القرن الرابع الهجرى.. شهد جيلا من الحنابلة أساء للمذهب الحنبلى
حديث «الفرقة الناجية»
السبت، 20 يونيو 2009 12:18 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة