هل فقدت بوصلة المصريين اتجاهها فلم تعد تفرق بين الصواب والخطأ؟
سؤال يكتسب أهميته فى ضوء مشاعر الناس المتضاربة فى أكثر من حادث، منها على سبيل المثال التعاطف مع قاتل ابنة المطربة ليلى غفران وصديقتها، وعدم تصديق أنه نفذ الجريمة، وهى نفس المشاعر التى انتابت الكثيرين عقب الحكم بإحالة أوراق رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى إلى فضيلة المفتى فى قضية مقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، وقبلها خرج الناس بعد مقابلة تليفزيونية أجراها محمود سعد فى البيت بيتك مع المتهم فى قضية تبادل الزوجات بتعاطف مع المتهم، وشكوك حول الإجراءات القضائية التى تمت معه!
المصريون شعب عاطفى بطبعه، لكن فى كل الأحوال والأزمان لم تطغ العاطفة على قدرة العقل فى ميزان الأمور ميزاناً صحيحاً، حتى اختل هذا الميزان مؤخراً، وأصبحنا نتعاطف مع الجناة، ونهمل الضحايا وهو أمر يحتاج إلى دراسات نفسية واجتماعية تبين لنا ماذا حدث للمصريين؟
فى تصورى المحدود أن جانباً كبيراً من النظرة العاطفية المختلطة للأمور راجع إلى فقدان الثقة بين المواطنين والحكومة، وهو أمر أثر على العلاقة بين الجانبين، بحيث لم يعد الناس يثقون فيما يصدر عن الحكومة، ويتناولونه بكثير من الشك، لكن المشكلة أن حالة عدم الثقة امتدت لتشمل كل شىء بما فى ذلك القضاء، ولم يعد الحكم عنوان الحقيقة عند الناس، وإنما أصبحت الأحكام القضائية مثار شك ونقد.
خذ مثلاً قضية هشام طلعت مصطفى، فى البداية صورت بعض الصحف الأمر على أنه خلاف سياسى بين رجال الأعمال داخل الحزب الوطنى الحاكم، وحين تم القبض على المتهمين شكك الكثيرون فى المحاكمة وقالوا إنها صورية، وحين أصدر رئيس المحكمة قراراً بحظر النشر قال الناس إن المقصود "طبخ" القضية، وحين صدر الحكم بالإعدام تعاطف الناس مع الجناة، وعادت نفس التبريرات عن قرار سياسى بحكم مشدد لأن الحكومة تريد ذبح القطة لرجال الأعمال!
انعدام الثقة فى الحكومة قد يكون أمراً مقبولاً، لكن امتداد حالة الشك إلى القضاء له تأثيرات سلبية كبيرة على الناس، لأنه يفقد القضاء مصداقيته بين الناس، ويجعلهم يلجأون للحصول على ما يرونه حقوقهم بأيديهم، وهذا قد يكون المسمار الأخير الذى يتم دقه فى الدولة المصرية قبل تشييعها إلى مثواها الأخير.
لكن أخطر ما فى ظاهرة عدم تصديق الأحكام والتعاطف مع الجناة، أنها تعنى أن الناس لم تعد تميز بين الصواب والخطأ، وهو تطور غير مسبوق فى الشخصية المصرية، إذا كان الأمر متعلقاً الآن بأحكام قضائية وجرائم سلطت عليها وسائل الإعلام الأضواء، فإنه يعنى فى المستقبل اختلاط كافة الأمور، بحيث لن يكون الصواب بين والخطأ بين، وإنما تصبح معادلة الصواب والخطأ مجرد اجتهادات شخصية لكل فرد.
هنا تكمن المشكلة، ليس فقط أن يسعى كل صاحب حق للحصول على حقه بيده، وإنما حين نفقد القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، ويتصور كل منا أنه على صواب، ويعمى الخطأ بصره، ونفقد البصيرة فتتحول مصر إلى غابة لا مكان فيها للقانون أو العرف الذى كان يميز ويعرف "الصح" من تلقاء نفسه.
وأعتقد أننا فى وسائل الإعلام المختلفة، أعمانا السبق الصحفى ونسب التوزيع والمشاهدة عن المسئولية الأخلاقية التى يتوجب على الإعلام التحلى بها، فساهمنا بوعى أو بغير وعى فى تحطيم الكثير من الأسس والمبادئ التى حمت وصانت الشخصية المصرية آلاف السنوات، وأصبح لزاماً علينا الآن التحلى بكثير من المسئولية والوعى لإعادة بناء المواطن المصرى أو على الأقل إزالة كل الآثار السلبية التى ساهمنا فى ترسيخها.