فى جلسات الصديقات وزيارات الأقارب وفى المقابلات العابرة مع المعارف، وحتى فى اللقاءات التلفزيونية التى تستضيف نجوما وفنانين، عادة ما يدور الحوار حول عدد من الأفكار والمعانى "القديمة الحديثة " إن صح التعبير....
الجدة العجوز التى تخشى الموت وحدها دون أن تجد أحدا من أبنائها بجوارها، الفتاة المخطوبة التى تنتابها الوساوس من ألا ينجح زواجها، الأم التى لا تنام الليل من فرط التفكير فى أولادها.. صحتهم.. مشكلاتهم.. ومستقبلهم فى الحياة، شاب قلق بشأن النجاح فى الحصول على إحدى الوظائف المرموقة، وأخ صغير مترقب لا يعرف إلى أين سيذهب به مكتب التنسيق، فنان ناشئ قلق بشأن كيفية استقبال الجماهير له، وآخر مخضرم يخشى زوال شهرته وتألقه، وطفلة صغيرة تخشى أول يوم لها فى المدرسة....
إنها مشاعر القلق، الخشية، التوتر، الترقب، والانتظار... وكلها تصب فى خانة واحدة من الشعور الإنسانى... من منا لم يعرف هذا الشعور... إنه "الخوف".هو غريزة فطرية لدى الإنسان تحميه من المخاطر... وليس الإنسان وحده من يتمتع بهذه الغريزة، فالمخلوقات الأخرى لديها الشعور الفطرى نفسه الذى يدفعها لحماية نفسها والتحرك سريعا لمواجهة أى خطر خارجى..
ونجد فى تراثنا عددا من الأمثال التى تتطرق لهذا الشعور وتحلله، فالبعض قد يرى أن الخوف فضيلة ووسيلة للنجاة من المهالك "من خاف سلم"، والبعض يرى أن الخوف شعور لا داعى له ولا فائدة مرجوة منه فى التقليل من حجم المصائب التى قد تعترض حياة الإنسان بلا مقدمات "الحذر لا يمنع قدر"، وهى دعوة – ربما – لترك الخوف والرضا بالقضاء والقدر، وقد ذهب البعض إلى أكثر من ذلك فى محاولة للتواؤم مع الشعور فى دعوة للتفاؤل حتى مع وجود الخوف "اللى تخاف منه مايجيش أحسن منه"، ومن منا لم يسمع هذا المثل الشعبى من والدته ليلة الامتحان على وجه التحديد، بينما تجد البعض ينفر من الخوف ومن نتائجه الوخيمة بشكل فيه نوع من التشاؤم والترهيب "اللى يخاف من العفريت يطلع له" وهى محاولة للتخويف من الخوف نفسه!
وقد أثبت علم النفس صحة المقولة الأخيرة نوعا ما... حيث إن الخوف عندما يستبد بشخص ما فإنه يتملكه بشكل يدفعه إلى الشعور والتفكير والتصرف بشكل "سلبى" ويقلل من طاقته "الإيجابية" لمواجهة الأمر الذى يخشى وقوعه، فتقل قدرته على إصدار ردود أفعال مناسبة للموقف، وعندها يقع ما لا يحمد عقباه.. ولذلك يفرّق العلم ما بين القلق فى حدوده الصحية الإيجابية التى تدفع إلى الحرص والنجاح، وبين القلق المرضى الذى قد يعطل تفكير الإنسان.
ومن أكثر أنواع الخوف التى تنتاب الإنسان الخوف من "المجهول"، وهو من أخطر المخاوف، نظرا لأنه أقل قابلية لهزيمته ودحضه من خلال التفكير المنطقى، فتسأل أحدهم من أى شىء تخاف، فيقول "من المستقبل، فأنا أعلم الحاضر ولا أعلم الغيب".
وللخوف علاقة أحيانا بشعور آخر إيجابى وهو "الحب"، وعلاقة (الحب/الخوف) هذه تقتضى أنه كلما ازداد حبنا لشىء ازداد بالتالى حرصنا عليه وتمسكنا به، وخوفنا من ضياعه أو الحرمان من التمتع به... فمن فرط حبها لأولادها تخاف الأم عليهم بشدة، فهم مصدر "سعادتها"، ولا تتخيل حياتها بدون وجودهم حولها.. الشىء نفسه يحدث لصاحب المال والمتعلق به والذى يعده مصدرا "لسعادته" فى الحياة... وعندما نستمع إلى النجوم اللامعين فى مجال الفن على سبيل المثال، نجد أن من أكثر العبارات التى تتردد على ألسنتهم بشكل دائم عبارة مؤداها "الخوف يتملكنى... نجاحى فى عملى الأخير يجعلنى أخشى من العمل القادم، لا أعرف ما الخطوة التالية التى يمكن أن ترفعنى ولا تقلل من حجم النجاح الذى وصلت إليه."
وهكذا فصاحب "النجاح" مثله مثل صاحب المال أو السلطة أو الجاه، يعده مصدرا "لسعادته" ويخشى من فقدانه، لأن الحياة بدونه مستحيلة بالنسبة له... فالفنان فى المثال السابق ينسى حتى "سعادته" بنجاحه الأخير، ويبقى خوفه مما هو آت، وربما هو ليس خوفا مما هو قادم بقدر ما هو خوف من ضياع لحظة "السعادة" الحاضرة، والخوف من عدم استمرارها فى المستقبل.
ولأن دوام الحال من المحال، فقد حثتنا الشريعة السماوية على عدم التمسك كثيرا بالأمور الدنيوية، فمهما استزاد الإنسان من تلك الأشياء التى يحبها ويجدها مصدرا لسعادته فى الدنيا ومهما تعلق بها، فإنه لا محالة مفارقها يوما ما، ولا يبقى له إلا عمله الصالح رفيقا له، وما من إنسان عاقل يتدبر فى ذلك الأمر إلا وهانت عليه الدنيا وقل خوفه وقلقه على أمورها الزائلة، وازداد صبره على فقد الأموال وربما الأولاد، فكل شىء قد يهون طالما لم يفقد الإنسان إيمانه وثقته بالله وبحكمته وقدرته.. ولذلك فإننا عادة ما نسمع مقولة "أن من عرف الله وتوكل عليه لم يهمه شىء"، فالتوكل لا يدع مجالا لقلق أو خوف.. وقد تكون هذه المقولة صحيحة "إلى حد ما"، لكن هذا لا ينفى وجود الخوف حتى فى أشد النفوس البشرية إيمانا وتسليما بالقضاء... فمن منا لا يفكر فى المستقبل أو يخشى الموت أو فقد الأحباب...
فمن الظلم وصف الإنسان الخائف القلق بضعف الإيمان أو عدم التوكل على الله، أو عدم التمتع بالشجاعة الكافية لمواجهة المخاوف والصعاب...
فالخوف يصيب الجميع بدرجات متفاوتة، وهو- بالرغم من كونه غريزة تحمى الإنسان من المخاطر- إلا أنه قد يتحول أحيانا إلى وحش كاسر مرعب يشل حركة الحياة... وذلك حين يتحول إلى مرض نفسى أو نوع من "الرهاب" أو "الفوبيا" التى تنغص حياة الإنسان..
فنجد البرامج التلفزيونية "الغربية" تعرض حالات لبشر سيطرت عليهم مثل هذه المخاوف، فهذه امرأة شابة ترفض الخروج من منزلها ومواجهة الشارع لمدة شهور طويلة، وأخرى تخشى الحقن، وأخرى تظل مستيقظة بجانب طفلها طوال الليل للتأكد من أنه مازال يتنفس، وغيرها، ومن أكثر أنواع المخاوف المرضية شيوعا وانتشارا الخوف من الأماكن المغلقة، يقابله وعلى النقيض الخوف من الأماكن المفتوحة، ولله فى خلقه شئون.. وكذلك الخوف من الأماكن المرتفعة أو ركوب الطائرات وصولا إلى الخوف المرضى من القوارض والحشرات...
وكلها مشاعر سلبية تصيب الإنسان الذى يعانى منها بالشلل التام عند مواجهتها، ورغم إمكانية اقتناعه – منطقيا – بعدم وجود ضرر حقيقى من تلك الأمور التى يخافها.
ومهما قلل البعض من حجم المعاناة التى تصيب مريض الرهاب، إلا أن العذاب النفسى الناتج عن هذا المرض لا يشعر به سوى المريض ذاته... وللأسف فقد اعتدنا فى الشرق على التقليل من شأن الأمراض أو الأوجاع النفسية، ولم نتعود على احترامها أو مناقشتها، مثلها فى ذلك عندنا مثل كل المشاعر الأخرى التى نعتبر شكوى البعض منها أو حتى مجرد التحدث عنها نوعا من الفراغ أو التفاهة أو الرفاهية.. وربما تبدو مثل هذه المشاعر نوعا بالفعل من الرفاهية، وهى تلك الرفاهية الناتجة من تطور الحضارة وتعقدها فى الغرب.. ففى ظل واقع الإنسان بالدول النامية والفقيرة تعد الشكوى من وجود مثل هذه المشكلات نوعا من الرفاهية التى لا وقت لها، حتى وإن وجدت مثل هذه المشكلات فإنه من غير اللائق التحدث عنها.
فحين تكون احتياجاتنا الأولية غير مُشبعة، بالتالى نصبح أكثر معاناة وأكثر قسوة على غيرنا وحتى على أنفسنا، وأقل رفاهية، وبالتالى أقل تفهما لتعقيدات النفس البشرية واحتياجاتها التى تبدو وقتها فى مرتبة أدنى.
فالرجل البسيط الذى يخشى من عدم الحصول على قوت يومه لا يشغل باله بأمور أخرى تبدو له ثانوية بل وتافهة... ومن ينام تحت قصف الطائرات فى إحدى الدول المشتعلة بالصراع لن يعبأ ببعض الحشرات الصغيرة... وعندما يُشبع الإنسان حاجة من احتياجاته الأساسية يخلق لنفسه احتياجا جديدا وقلقا جديدا وخوفا جديدا... وهكذا تستمر الحلقات.. الخوف لا يذهب إلا إذا هزمه خوف جديد أحيانا، فيحل الجديد محل القديم... يذهب "السبب" القديم للخوف ويأتى "سبب" جديد، ولكن يبقى الخوف ذاته..
ويبقى علينا أن نهزم الخوف دائما قبل أن يهزمنا ويعرقلنا ولا يدع لنا مجالا للعيش الهانئ ويعطل خطواتنا إلى الأمام فى هذه الحياة، ومهما كان قد تمكن من أنفسنا فلابد من الانتصار عليه... أولا بمواجهته والاعتراف به أمام أنفسنا بلا خجل.... وسواء اخترنا مواجهته بالعلاج النفسى، أو قهره بالإرادة القوية، أو ربما التعايش معه وحسب، فالمهم ألا يقهرنا أو ينتصر علينا فى النهاية. وما أصدق مقولة الرئيس الأمريكى الراحل (فرانلكين روزفلت) حين قال " الشىء الوحيد الذى يجب أن نخاف منه هو الخوف نفسه.."
سمر طاهر تطالب الجميع برفض الخوف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة