ربما لم تدرك المدرسة التى صفعت محمد القاضى على وجهه لكى يرسم، أن هذا الطفل سيصبح فناناً متميزاً فى يوم من الأيام فيقول "أول صفعة فى حياتى كانت عشان أرسم، لم أكره شيئاً فى حياتى أكثر من الرسم، ولم أعاقب على أى شىء غير الرسم".
يبتسم الفنان محمد القاضى (59 سنة) وهو يتذكر تلك المدرسة التى كانت تبدأ حصة الرسم بـ"حدوتة" ليختار بعدها كل طفل لقطة منها ويرسمها، ذهب إليها محمد الذى لم يتعد السابعة وقال لها "أنا مش بعرف أرسم" فصفعته على وجهه، صفعة جعلته يكره المدرسة والرسم وكل ما له علاقة بهما، كان طفلاً متميزاً فى كل المواد، لكن بمجرد أن تبدأ حصة الرسم يتبدل حاله ليصبح أسوأ الطلاب، ظل على هذا الحال حتى وصل للمرحلة الإعدادية، وجاء اليوم الذى شاهد فيه ابن عمه يخط بيده البروفيل، ينزل بسلاسة من العين إلى الأنف والفم فأخذ يقلده وأصبح يجمع كل ورقة عليها صورة ليرسمها وكان أهله يعنفونه ويقولون له "إيه الورق إللى بتجمعه ده، أنت أكيد حتطلع زبال".
جمال وش السعد
وأخيراً اقتنع أحد بموهبته، فى امتحان الإعدادية طلب منه رسم ميدالية تذكارية عن الثورة، وكان متيماً بشدة بشخصية جمال عبد الناصر، فرسم بروفيل جمال على وجه الميدالية وعلى الوجه الآخر شعار الإصلاح الزراعى.
شاهد أحد المدرسين الرسم فاندهش أن يستطيع طفل رسم بورتريه بهذا الإتقان، وفى وقت قصير جمع المدرسين ليشاهدوا هذا الرسم.
أبيض فى أسود
هكذا رسمت هذه الميدالية ملامح حياته، فحصل بعد الإعدادية على دبلوم رتوش ومونتاج، وأصبح الرسم هو عشقه الأول، بداية من الرسم بالفحم الذى يعطى صورة ناعمة تشعر وكأنها صورة فوتوغرافية، والرسم بالحبر الشيمى وبتكثيف النقط والرسم بالألوان المائية.
ركز بشكل أساسى على رسم البورتريه وخاصة "السيلويت" الذى يعتمد على رسم بروفيل الشخص باستخدام مقص على ورقة سوداء توضع على خلفية بيضاء، يبدأ من أسفل الرقبة، مروراً بالفم والأنف والعين حتى يصل إلى الشعر.
جاءت فكرة الرسم بالمقص بالمصادفة حين تعرف فى أحد المعارض على فتنة مؤمن رائدة فن السيلويت فى الوطن العربى، حيث كانت ترسم بالمقص بروفيل على ورق أسود.
أعجب بهذ الفكرة وحاول تنفيذها من خلال رسم المقربين له، وإن كانت زوجته هى التى نالت النصيب الأكبر "كانت الموديل الأول الذى أرسمه فى كل المعارض"، قال محمد القاضى آسفا على رحيلها عن الدنيا.
وقد فطن مبكرا أن كبار الفنانين لا يستطيعون الرسم بالمقص، فاختار أن يتميز فى هذا الفن الذى يعتمد بشكل أساسى على البورتريه، فعمل عدد كبير من المعارض داخل مصر وفى بعض الدول العربية.
رد فعل سريع
وتتمثل صعوبة الرسم بالمقص فى عدم إمكانية الرجوع عن حركة المقص، فالقرار فيها فورى ومن أول نظرة للشخص، عليه أن يدرك سريعاً ما يجب عليه تسجيله على الورق، كما عليه أن يراعى النسب بين الملامح خلال ثوان.
"منتهى المعاناة" هذا هو شعوره عندما يوضع فى امتحان الرسم بالمقص، حيث يشعر بالخوف، فالخطأ لا يعوض، والكل منتظر للنتيجة النهائية ورد الفعل وقتى.
وأكثر صعوبة تواجهه فى الرسم بالمقص هى رسم الملامح العادية غير المميزة، أما أكثر الملامح التى تساعده على إظهار موهبته هى الذقن البارز، الشفاه البارزة أو الأنف المميز، كما يجد صعوبة فى رسم الأطفال لأن الاختلاف البسيط فى ملامحهم يعطى ملامح رجل عجوز.
السادات مبتسماً
وسعى محمد القاضى لإدخال بعض التطوير على فن السيلويت، فاستخدم التعبيرات المختلفة، فترى صورة بروفيل للرئيس الراحل أنور السادات وهو مبتسم، وأخرى وهو حزين.
ومن البورتريه الجانبى، انتقل إلى رسم البورتريه بالمواجهة، حيث يستخدم المقص فى إبراز أهم الملامح المميزة للشخصية، ففى شخصية شارلى شابلن، أبرز العصا والقبعة والشارب وقدميه المميزتين.
كما اتجه إلى رسم بورتريهات لحيوانات، وفى الوقت الحالى يسعى لرسم موضوعات وهو ما تردد فيه كثيراً لأنه سيضطر إلى الرسم بالرصاص، ثم يقص وهو مايتيح له رسم صورة لأم كلثوم بمنديلها المميز.
عبد الناصر الأكثر طلباً
الرؤساء الثلاثة جمال عبد الناصر،أنور السادات، حسنى مبارك، من أكثر الشخصيات التى يركز عليها، لأن الناس تحفظ ملامحهم جيداً، وتذكر أن الكثيرين كانوا يطلبون منه صورة لعبد الناصر للاحتفاظ بها، وقل هذا الأمر فى عهد السادات.
اتخذ محمد القاضى الرسم كهواية إلى جانب عمله فى مجال الطباعة، فهو يعرف أن الفن لا يقدر حق قدره فى مصر، ويكتفى بالدعوات التى توجه إليه من وقت لآخر لحضور حفلات ورسم المدعوين.
عرض عليه أحد أساتذة الفنون الجميلة أن يدرس فن الرسم بالمقص، إلا أنه اعترف أن هذا الفن ليس له قواعد معينة، وعلى من يمارسه أن يكون موهوباً فى مجال الرسم ويراعى بنظرة واحدة النسب بين ملامح الوجه.
مقص القاضى إبداع يحتاج قراراً وسرعة فى رد الفعل
الإثنين، 27 أبريل 2009 02:28 م