إبداعات شبابية

"ظل هارب" .. قصة هند سليمان

الإثنين، 09 مارس 2009 09:36 م
"ظل هارب" .. قصة هند سليمان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى طريقى للعمل، مروراً بشارع عبد الخالق ثروت، اعتدت إلقاء نظرة عابرة وسريعة على جاليرى للوحات الفنية، ولكن هذه المرة وقفت متأملة لهذا البرواز الذى تقطنه لوحة لفتاة صغيرة منزوية منطوية، إلى جانبها البنات والبنين فى نفس عمرها تقريباً، يرتعون ويلهون، وترقبهم بعينيها الصغيرتين المليئتين بالحسرة والانكسار.

وفيما يشبه السحر، اختفى كل من فى اللوحة باستثناء الصغيرة، مازالت تقبع فى نفس الزاوية البالغة الضيق، وإذ بها تركض عرجاء، تجرى للأمام، وخلفها ظلها يمشى عكس الاتجاه، وكأنها تجردت من ظلها، أم ترى انفصل عنها بإرادته؟!.

وفى لحظة اختفت الصغيرة، هى الأخرى وأصبحت اللوحة خواء، ورقة لا قيمة لها، أم أرادت أن تنقل لى إحساسها بالوحدة، على الرغم من وجود الكثيرين حولها لكنهم مع الأسف طردوها ونبذوها، وما كان عليها إلا أن تطردهم من لوحتها.

اتسعت عيناى من غرابة الموقف، واستدرت حتى أستكمل مسيرتى، متمتمة بكلمات غير مترابطة، وإذ بها تنادينى من لوحتها وهى تبكى، وتغمر اللوحة بدموع تساقط ظلها على أرضيه الجاليرى، ومدت يدها إلىَّ، وفى نبرة كستها المرارة والألم سألتنى أن أبقى معها وألا أتركها كالبقية وألا أنحاز لظلها.

فسألتها متلعثمة "هل أنت حلم أم حقيقة؟" فأجابتنى "انظرى فى أعين من حولك ستجدينى حقيقة"، فالتفت إلى الخلف متأملة وجوه المارة فى محاولة لقراءتها، فقالت "انظرى فى أعين الناس ستجديننى باحثة عن الرحمة فى قلب شاب تجاه عجوز قدماه نحيلتان لا تقدران على حمله، ستجديننى فى أعين أم تسأل ابنها الرحمة والطاعة، وأنين أب نهره ابنه وأفقده عكازه، فى استغاثة طفل يئن ويتأفف من البرد تحت الكبارى، فى دموع امرأة هجرها زوجها مع خمسة أطفال لتطرق كل الأبواب قاصدة سخاء الجيوب والكرم".

وقالت "نعم أنا هى تلك الطفلة التى تتوسل إلى فتاة أو رجل فى المواصلات وفى الطرقات لتأخذ منها علبة مناديل وتعطيها ثمنها لكى تعود لزعيم "الخرابة" بمحفظة ممتلئة، وإلا سيعلقها بأوتار العذاب والذل فى سقف "الخرابة" ويضرب على قدميها بسوط الجبن والتخلف والجهل".

وواصلت "هكذا نأى عنى ظلى، وأعرضت عنى الرحمة وتركتنى فريسة لمن هجرتهم يركلوننى بنظرتهم، ويرشقوننى بسهام ألسنتهم، ويحرقوننى بنيران قلوبهم".

وأعطت لى ظهرها، وزجت باباً ناصع البياض وكأنه باب من أبواب الجنة، فخطت إلى داخله بخطوات ثقيلة مترددة لتعبر إلى مكان أغرب من الخيال وأشبه بالسراب، قد لا تجد له تفسيراً إلا فى يوتوبيا أفلاطون وتوماس مور، وإذ باليوتوبيين يصطفون أمام منازلهم البدائية المتحضرة، لاستقبال الصغيرة ذات القدمين العاريتين، وهم يتبارون على استضافتها وشملها بالرعاية والحب.

فجالت الصغيرة بأعينها فى المكان مستغربة ومتشوقة لكسر الغموض الذى يحيط بهذا المكان الذى يحنو فيه الكبير على الصغير، ويساعد الصغير الكبير على المشقات، والذى يصل بين السكان فيه رباط المودة والحب، على الرغم من اختلاف شاكلتهم وجلودهم وألسنتهم.

واندهشت عندما علمت بعدم وجود مسئول واحد على ظهر هذا المكان، فكل منهم مسئول عن سعادة الآخر، فهم ليسوا فى حاجة إلى مسئول أو تشريع لأنهم لا يتظلمون.

واحتواها صغار يوتوبيا وغمروها بالحب وقوموا عرجها وأخذوا يجذبونها للعب معهم، وفى هذه اللحظة عانقها ظلها فأنكسر فيها الانكسار، وتبدلت الحسرة فى عينها إلى فرحة نقية لا يشوبها خوف من المجهول، ولا حزن على إنسان يتأذى من قسوة القلوب وجفاف الجيوب وظلام العقول، مستمتعة بيقظة الحواس وبراءة المشاعر.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة